للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كيف تعد للسؤال جواباً؟

إن حياتك الحقيقية إنما هي في طاعتك لله عز وجل، كل دقيقة تمضي بغير ذكر فإنها خسارةٌ على العبد، ألزم نفسك في هذه اللحظات بما يقربك إلى الله عز وجل، من ذكرٍ أو تأملٍ، أو أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن منكر، أو سدّ حاجة إنسان، أو تعليم جاهل، لا تضيع لحظاتك؛ فإن اللحظات هي العمر، وقد علمنا أن خمسة وعشرين عاماً فقط يسأل العبد فيها: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ بعض الناس يتصور أنه يستطيع أن يقولها، لأنها كلمة مذللة وسهلة، ولكن هذه الكلمة هي التي عناها الله عز وجل بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢]، هذه التربة شربت من دماء الأبرار بسبب هذه الكلمة، الذين ماتوا وضحوا وجاهدوا وتعرضوا للرهق بسبب هذه الكلمة، فهي ثقيلةٌ جداً، ولو كانت خفيفة ما أعرض عنها أكثر العباد؛ لأن لها تبعات، إنها تجعل المرء غريباً في أهله، تفقده الأنيس وهو حي في أهله، ولذلك سماها الله عز وجل أمانة، وهذا يعني أن الذي لم يأت بها خائن لميثاق العبودية الذي أخذه الله عز وجل على العبد يوم خلقه، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢] فقال لهم: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:١٧٢]، فإنما أخذ الله شهادة المرء على نفسه حتى لا تكون له حجة، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:١٤٩].

ولذلك سيأتي المجرم الأحمق يوم القيامة، الذي أغلق على نفسه الباب وهو يفعل المعصية، وظن أن الله لا يعلم كثيراً مما يفعل، فجاء يوم القيامة وقد ظن أنه بعدما استتر أن لا حجة عليه، فلما وقف أمام الله عز وجل ليحاسبه قال العبد الأحمق مبادراً ربه: رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى.

قال: فإني لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي.

لأنه لما فعل المعصية كان وحده، وهو يظن أن الله عز وجل لا يستطيع أن يقيم عليه الحجة، لذلك بادر الله بهذا القول.

فقال الله عز وجل: لك ذلك، وختم على فمه، فنطقت يده، ونطقت رجلاه، ونطق فخذه بما كان يعمل، فقال: تباً لكُن، فعنكن كنت أجادل وأدافع {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩].

فكلمة التوحيد بتكاليفها أمانة، فلم تفرط وأنت على ربك قادم؟؟ الله عز وجل هو الملجأ لعباده، فلا يكون الفرار منه إلا إليه.

إنك إذا خفت ظالماً فررت إلى من يمنعك منه، لكن الله عز وجل لا يُفرُ منه إلا إليه، فهو الذي قد أحاط بك، وأحكم قبضته عليك، وأنت تعلم أنك إليه راجع، فلماذا التمادي في العصيان وأنت ترجع إلى ربٍ غفورٍ ودود؟! وتأمل -أيها المسلم- هذا الحديث الرائع الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، لتعلم قدر رحمة ربك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (آخر رجلٍ يخرج من النار ويدخل الجنة رجلٌ يمشي مرة، ويحبو مرة -أي: ينكفئ على وجهه مرة- وتلفحه النار مرة، فهو ينادي ربه عز وجل ويستغيث به، قائلاً: رب قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فأخرجني منها.

فيقول الله عز وجل له: لئن أخرجتك من النار تعاهدني على ألا تسألني شيئاً بعد ذلك؟ فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها، فيخرجه من النار، فما إن خرج حتى التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من العالمين، فرفعت له شجرة) الحديث.

أنت في اليوم الشديد الحر تأوي إلى الظل، وتشعر بقيمة هذا الظل في الحر، فما بالك بمجرم خارج من النار أعاذنا الله وإياكم منها، فإن أعظم يوم حر على وجه الأرض قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه (هو نفس من جهنم) لأن جهنم اشتكت إلى ربها، قالت: رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، مثل القدر الذي يغلي، فأنت تجعل فيه ثقباً حتى لا ينفجر القدر من البخار، فالنار يأكل بعضها بعضاً، فاشتكت إلى الله، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، قال عليه الصلاة والسلام: (فنفس الصيف هو أشد ما تجدونه من الحر، ونفس الشتاء هو أشد ما تجدونه من البرد) فالرجل خرج من النار ووجد شجرة، فلما رآها ما أطاق ولا تحمل، فنسي العهد الذي أعطاه ربه منذُ قليل، (وقال: رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها، وأشرب من مائها.

فقال الله عز وجل: ما أغدرك يا ابن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني شيئاً بعد ذلك؟! وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه.

فيقول له: لئن أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ فيقول: إيه، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة)، فيشعر بالبرد، ويشرب من الماء البارد الذي حرم أهل النار منه؛ لأن الماء الساخن لا يروي، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم اجعل حبك أحب إلي من الماء البارد) ولا يطلب أن يكون حب الله أحب إليه من شيء إلا لأنه أعظم شيء، الماء الساخن لا يروي أبداً، فكيف إذا كان ماءً مغلياً؟ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:٢٩] {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:١٥]، فكان هذا الرجل محروماً من نعمة الماء البارد، فأول ما رأى؛ عين ماءٍ تجري، ورأى ظلاً وارفاً لم يحتمل، ونقض العهد والميثاق، فأدناه الله من الشجرة (فاستظل بظلها وشرب من مائها، ولكن سرعان ما رفع إليه شجرة هي أعظم من الأولى، فنسي الرجل -أيضاً- العهد والميثاق، وقال: رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها وأشرب من مائها.

فقال الله عز وجل له: ما أغدرك يا بن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني عن شيئاً بعد ذلك، وربه يعذره)، وتأمل هذه الكلمة! بعد كل نقض يقول: (وربه يعذره!) كذلك لو نقض العبد العهد والميثاق في الدنيا ومضى في غيه وضلاله سنين عدداً، واعتذر إلى الله عز وجل ورجع لعذره الله؛ لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، لذلك أرسل الرسل حتى يعذر الناس.

فقال: ما أغدرك يا ابن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فقال الله عز وجل له: عبدي! لئن أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ يقول: إيه، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة، ثم يفتح له باب إلى الجنة، وإذا المؤمنون يتضاحكون ويسامر بعضهم بعضاً، والرجل وحيد، فيريد أن يدخل الجنة، لكنه تذكر أنه نقض العهد مرتين فسكت، لكن غلبه ما يجد ولم يتحمل، فنقض العهد، وقال: (رب! أدخلني الجنة، فإنه لا يضرك.

فقال الله عز وجل: ادخل الجنة، ولك مثل الدنيا).

فالرجل أول ما سمع كلمة (مثل الدنيا) لم يصدق، فكأنه يقول بلسان الحال: وأنا ظللت طيلة حياتي أكافح لتوفير راتب هزيل آكل به أنا وعيالي، ومضيت من الدنيا ولم أتمتع بأسهل متعها!! لم يصدق الرجل، كيف امتدت عينه إلى نعمٍ أنعم الله بها على أناس، لعل الله عز وجل نهاه {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:١٣١] وسماها زهرة؛ لأن عمر الزهور قليل، لا روح للزهور، لو تركتها ساعتين لذبلت، {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:١٣١] فكيف أمَّل؟ وكم أرسل قلبه إلى نعم، ومضى من الدنيا ولم يتمتع بأكثرها! وإذا به الآن يسمع أن له مثل الدنيا!! لذلك لم يصدق، فلما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ضحك، فقال لأصحابه: (ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك من ضحك رب العزة، لما قال له الرجل: أتستهزئُ بي وأنت رب العالمين؟! -أي: أنت تعدني بكل هذا وأنت لا تعطيه، فإذا وعد الرجل أخاه ولم يعطه كأنما استهزأ به، يقول: أتستهزئُ بي وأنت ربُ العالمين؟ - فيضحك الله عز وجل من قول العبدِ (أتستهزئُ بي؟!) فيقول له: أما إني لا أستهزئُ بك، ولكني على ما أشاء قادر، ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها) إذا كان (مثل الدنيا) فقط كاد أن يطير رأسك من عدم التصديق، فأنا أتحفك بعشرة أمثالها، فلو جاز أن نقول: إن في الجنة فقيراً لكان أفقر رجل في الجنة له مثل الدنيا عشرة أمثالها.

فأنت أيها الإنسان تعيش خمساً وعشرين سنة، ولن تكون أغنى الناس، ولن تكون أقوى الناس، ولن تكون أترف الناس، ولو سلمنا أنك ملك الناس في الدنيا، وأغنى وأترف الناس، فما هي إلا خمسة وعشرون سنة فقط، ولذلك قال الله عز وجل لأمثال هؤلاء: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:٨] (قليلاً)؛ لأنه عندما يعيش لا يحاسب عن ستين سنة، إنما يحاسب عن خمس وعشرين سنة فقط {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:٨]، نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيذنا وإياكم منها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.