[سؤال ابن عباس لعمر عن قصة التحريم والإيلاء]
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب النكاح، في باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لم أزل -وبعض الألفاظ من طرقٍ أخرى من خارج صحيح البخاري- حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله تعالى فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]، حتى حج وحججت معه، وعدل وعدلتُ معه، فقضى حاجته، فصببت عليه وضوءه، فقلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]؟ فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً، فكان إذا نزل أتاني بخبر الوحي وما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نزلت فعلت مثل ذلك، وكنا معشر قريشٍ قوماً نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم.
قال عمر رضي الله عنه: فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت على امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: أَوَفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟! لم تنكر أن أراجعك؟ ووالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل.
قال عمر: فأفزعني ذلك، ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنيتي! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل؟! قالت: نعم.
فقلت لها: قد خبت وخسرت! وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟! لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك -يعني: عائشة - أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عمر: وكنا نتحدث أن غسان تُنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي يوم نوبته عشاءً، فطرق الباب طرقاً شديداً وقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم فقلت: أجاء غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول! طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه! فقال عمر: قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون.
قال: فجمعت علي ثيابي ونزلت، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت لها: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟! أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟! قالت: لا أدري! ها هو ذا معتزل في المشربة، فخرجت فجئت المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، قال: فجلست معهم: ثم ذهبت إلى باب المشربة، وكان على الباب رباح -وهو غلام للرسول عليه الصلاة والسلام- فقلت للغلام: استأذن لـ عمر.
فدخل الغلام ثم رجع، فقال: ذكرتك له فصمت.
قال عمر: فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر.
فدخل ثم رجع.
فقال: قد ذكرتك له فصمت.
قال: فذهبت فجلست مع الرهط الذي عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، قال: فقلت للغلام: استأذن لـ عمر.
قال: فدخل ثم رجع إلي.
فقال: قد ذكرتك له فصمت.
فلما وليت منصرفاً، إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم.
فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال في جنبه، فأردت أن أستأنس، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريشٍ نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قومٌ تغلبهم نساؤهم.
قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتني أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، فرفعت بصري في بيته عليه الصلاة والسلام، قال: فلم أر شيئاً يرد البصر -أي: يملأ العين- غير أهبة ثلاثة -أهبة: جمع إهاب، وهو الجلد- فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فإن فارساً والروم قد وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله.
قال: فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وكان متكئاً، وقال: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟! إن أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا إلى أن قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فبدأ بها، تقول عائشة: فدخل عليّ من تسع وعشرين أعدها عداً، فلما دخل قلت: يا رسول الله! قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً، وإنما أصبحت من تسعٍ وعشرين أعدها عداً.
فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر تسع وعشرون.
قالت عائشة: فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين.