[الركن الأول: توحيد الله عز وجل]
إن توحيد الله عز وجل الذي جاءت به الرسل هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية فطر الله الخلق عليه.
توحيد الألوهية: أنه لا يجوز صرف شيء لله لغير الله عز وجل من العبادة والنسك وغير ذلك، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:١٦٢] هذا هو توحيد الألوهية.
وتوحيد الربوبية فطر الله الناس عليه، ولذلك المشركون لما جوبهوا بهذه الأسئلة أجابوا الإجابة الصحيحة التي تتناسب مع اعتقادهم أن الله عز وجل هو الرب الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يرزق الناس، وهو الذي يخلق الناس، وهو الذي يميت ويحيي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧] فلماذا كفرهم؟ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٩] لماذا كفرهم؟ {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٥] إلى آخر الآيات، لماذا كفرهم إذاً؟ لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية، أي: بإفراد الله عز وجل في العبادة، فقال بعضهم لبعض: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥] وما هو العجاب؟ لقد تفرد بالخلق، وتفرد بالرزق، وتفرد بالإحياء والإماتة، أفلا يتفرد بالعبادة؟ أليس هذا مناسباً أن يتفرد بالعبادة وقد تفرد بكل شيء؟! ولذلك فإن القرآن الكريم يثبت توحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية، فيذكر آلاء الله ونعمه على الخلق، ثم يقول لهم: إذا كان الخلق، والإحياء، والإماتة، والرزق بيد الله عز وجل؛ أفلا يستحق فعلاً أن يكون هو المعبود دون سواه؟! وبعض الناس يلتبس عليهم الأمر ولا يفرقون بين النوعين، فمثلاً: أفتى بعضهم يوماً أن الطواف بقبور الصالحين والأولياء كـ الحسين رضي الله عنه، وكالسيدة زينب رضي الله عنها، وسائر عباد الله الأخيار الذين بنوا على قبورهم قباباً، يقول: إن الطواف بقبور هؤلاء ليس شركاً ثم يبسط قوله فيقول: لأنك لو سألت رجلاً ممن يطوف: هل هناك رازق غير الله؟ يقول: لا، هل هناك محي غير الله؟ فيقول: لا.
هل هناك مميت غير الله؟ فيقول: لا.
إذاً: هذا الرجل موحد -حسب زعمه-.
فنقول: لا.
هذا الرجل لم يعرف من التوحيد إلا ما عرفه المشركون الأوائل، وهو توحيد الربوبية، لكن هذا الرجل شد رحله من بلده لطلب حاجة، أو دفع ضر، أو جلب نفع والتوحيد حقاً، أن نعتقد أنه لا يقدر على دفع الضر إلا الله، ولا يقدر على جلب النفع للعبد إلا الله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورفعت الصحف).
فعندما تشد الرحل من أقصى البلاد لتقول: يا حسين! ادفع عني الضر؟! فما صنعة الله في الكون؟! {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:١٤].
فالمقصود من توحيد الألوهية: أن لا تصرف شيئاً من العبادة إلا لله، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:٥] (الحنيف): يعني: المائل عن العقائد الزائغة، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:١٤].
ولتعلم أن العمل الصالح قاعدته: التوحيد، وإلا فقد جاء أقوام إلى الله عز وجل بأعمال كثيرة؛ فقال عنهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣] لأن القاعدة متهالكة، وفي الحديث الآتي بيان لذلك، وهذا الحديث في الصحيحين وغيرهما، وهو نِذارة خطيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أول ما يدخل الجنة شهيد وقارئ وعالم -وفي رواية للنسائي: (ورجل جواد) أي: غني- فيؤتى بالشهيد، فيعرفه الله نعمه عليه، ثم يقول له: ماذا فعلت؟ يقول: يا رب قاتلت فيك حتى قتلت.
فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، ثم يسحب به إلى النار.
فيؤتى بقارئ القرآن: ماذا فعلت بالقرآن؟ يقول: يا رب! قرأته فيك آناء الليل وأطراف النهار.
فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، بل قرأت ليقال: قارئ، وقد قيل؛ فيسحب به.
ثم يؤتى بالعالم: ماذا فعلت بالعلم؟ يقول: يا رب! علمت الناس آناء الليل وأطراف النهار.
فيقول الله عز وجل: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل علمتهم ليقال: عالم، وقد قيل، وكذلك الأمر في الرجل الجواد: ماذا فعلت بالمال؟ يقول: يا رب! أنفقته فيك.
فيقول الله له: كذبت.
وتقول الملائكة: كذبت، بل أنفقت ليقال: جواد -يعني: سخي- وقد قيل).
هذه الأعمال الأربعة من أجل القربات إلى الله: فالشهادة فضلها معلوم، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشهيد يرى مقعده من الجنة مع أول دفقة من دمه) فكيف يحشر إلى النار، ويكون أول الداخلين؟ وكذا قارئ القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقال: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) وفي الحديث الآخر: (لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، قارئ القرآن يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) فتكتب مائة وتسعين حسنة، والذي يقرأ القرآن الكريم كل شهر تكون لديه جبال من الحسنات، فكيف يدخل النار ويكون أول الداخلين مع هذه القربة؟! وكذلك العالم: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه) فالكل يدعي العلم لشرف العلم، قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩] وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:١٩] وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا) [آل عمران:١٨]، فمنزلة العلماء رفيعة معروفة، فكيف يسحب هذا إلى النار ويكون أول الداخلين؟ لماذا هذا الجزاء؟! لأنهم أشركوا في أصل العمل، فأرداهم، ولا ينفع مع الشرك طاعة، فبرغم فضل عمل هؤلاء إلا أنهم لما أشركوا بالله عز وجل بطل عملهم وصار وبالاً عليهم.
وهناك حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- فيعمل بعمل أهل النار؛ فيدخل النار.
وإن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد شبر -أو قال: قيد ذراع- عمل بعمل أهل الجنة؛ فدخل الجنة) فالمشكل هنا: كيف أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة زماناً طويلاً ثم يحشر إلى النار، والرجل يعمل بعمل أهل النار زماناً طويلاً، ثم يحشر إلى الجنة؟! نقول: يزيل هذا الأشكال وجود زيادة في نفس الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس) وبهذا انتهى الإشكال، أي: يعمل الزمن الطويل مرائياً، لذلك ناسب أن تكون خاتمته على غير ما كان يعمل، إذ لو كان يعمل لله؛ فإن الله لا يضيع أجره، والعبد يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، لكنه لما أقبل على الله كان صادق الطلب، وليس عن أذهانكم ببعيد حديث: (الرجل الذي قتل مائة نفس، فسأل راهباً عابداً: ألي توبة؟ قال: لا.
فقتله فأتم به المائة، ثم سأل رجلاً راهباً عالماً قال: قتلت مائة نفس، ألي توبة؟ قال: نعم.
ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعملون الصالحات فاعمل معهم.
فخرج الرجل وقد ناء بصدره -أي: قدم صدره، كناية عن المبادرة والإسراع- إلى الأرض التي أمره العالم بالتوجه إليها، فما خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله عز وجل إليهم حكماً أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها، وأمر الله الأرض -لأن الرجل ما كاد يخرج حتى مات، يعني: هو يقيناً أقرب إلى أرض العذاب، لكنه لما كان صادق الطلب أمر الله الأرض أن تطوى من تحته- فقال لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي، فلما قاسوا المسافة بين الأرضين وجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد؛ فغفر له فدخل الجنة).
إن الله عز وجل لا يتعاظمه ذنب، فذنبك مهما عظم شيء، ورحمة الله وسعت كل شيء، ولذلك قال الله تعالى: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧]؛ لأنك مهما فعلت من الذنوب لا يمكن أن تأتي على رحمة الله كلها، بل هي تشملك وتشمل كل عاص، فهي أوسع مما تتصور، وهذا يناسب كمال صفاته تبارك وتعالى.
إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار) فيما يظهر للناس.
فلذلك كل عمل راقب العبدُ فيه العبدَ فهو على شفى هلكة، والعلماء لهم هنا بحث فرعي، يقولون مثلاً: لو جاء رجل إلى المسجد ليصلي الصلاة، فبينما هو يصلي إذ رمق شخصاً يلتمس عنده الوجاهة؛ فأطال الصلاة، فأطال الركوع والسجود فما حال صلاته؟ قال العلماء: ما زاده مردود، أما أصل عمله فمقبول؛ لأنه لما خرج إلى المسجد ما خرج رئاء الناس، وإنما خرج ليصلي.
ولو أنه خرج من داره ل