إن العلم بحر واسع جداً، وإتقان الباب الواحد من العلم يحتاج إلى عمر، فلا يستوي في العلم من أمضى نصف قرن مع من أمضى خمس سنوات، لاسيما أن هناك شيئاً يذكره العلماء اسمه الذوق والملكة، والذوق هذا غير ذوق الصوفية، ولا تحصل من الكتب، وإنما تحصل من الدربة والممارسة، ولذلك الإنسان يتعجب حين يرى بعض الصغار يتكلمون في المسائل الكبيرة التي يتهيب الكبار عن الكلام فيها! يدخل على مسألة عويصة جداً تحتاج إلى عمر! يا أخي! إذا شككت في مسألة فضع علامة استفهام وابحث، وعندك عمر طويل، لماذا تتعجل بوضع العنوان للكتاب قبل أن تكتب حرفاً فيه؟! لاسيما إذا كان هذا الإنسان لم يسبق إليه بل هو مجرد فهم فهمه، فهذا ينبغي أن يشفق على نفسه، وينبغي أن يعرف أنه لم يريّش بعد فكيف يطير؟! فالذي له باع في الاستقراء يكون أقرب إلى إصابة الحق من الأقل، فمثلاً الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، وهو كان من أئمة الدنيا في علم الحديث، شهد له بذلك المخالف والموافق، منهم الغماريون الذين هم المغاربة، وهؤلاء معروف أنهم مبتدعة، وأهل طريقة صوفية، ولديهم خبط كثير في العقيدة وفي السلوك والمنهج.
أحمد أبو الخير -الذي توفي، وكان من أقران الشيخ أحمد شاكر - لمّا ذكر الألباني -وكان الألباني آنذاك ابن أربعين سنة- ومعروف أن أحمد الغماري كان يرى أن الألباني مبتدع ووهابي، وكان يقول هذا في الخطاب الذي أرسله إلى صاحب له هنا في القاهرة، بشأن الألباني وما كان بينه وبين الحبشي هذا الضال المضل، الذي هو في لبنان الآن، ولعله قارب المائة، وكان هناك نقاش علمي بين الشيخ الألباني والحبشي في ذلك الوقت، فـ أبو الخير أحمد الصديق الغماري يكتب رسالة لصاحبه في مصر عن هذين الرجلين: عن الحبشي وعن الألباني قال له: أما الحبشي فينقل كما ينقل الناس، وأما الألباني فمن الأفراد في معرفة الفن، لكنه وهابي خبيث.
فبرغم أنه مخالف له ووصفه بأنه وهابي خبيث، إلا أنه لما جاء في ذكر علم الحديث قال: إنه من الأفراد، وكان ابن أربعين سنة أو يزيد قليلاً، فكيف بما حصله الشيخ من العلم في أربعين سنة أخرى.
نحن نقول: إن الشيخ الألباني ليس بمعصوم، وله أخطاء هو يعرفها ويعرفها الناس، والله تبارك وتعالى لم يعط أحداً أماناً من الغلط فنستنكف له منه، بل وصف عباده بالعجز وقرنهم بالحاجة، فقال تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:٧٦].
لكن نقول: إنه من جهة التفصيل فقد يكون الحق مع الصغير، لا ننكر هذا، فقد يكون الشيخ قد صحح حديثاً أو ضعّف حديثاً أو حسّن حديثاً، فيأتي من هو أقل منه -وقد يكون من تلاميذ تلاميذه- يتعقبه، ومن الممكن أن يصيب ويكون الحق معه؛ لكني الآن أريد أن أتكلم في الجواب المجمل، أما الجواب المفصل فأمره يطول، الجواب المجمل: إذا كان هناك مسائل مختلف فيها، كأن يتكلم في حديث مثلاً: هل هو حسن أو ضعيف؟ أنت تعرف أن الحديث الحسن -بالذات الحسن لغيره- هذا شأنه مثل اللبن {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ}[النحل:٦٦]، على حسب عمر ومهارة وذكاء ودربة المحسّن، إذا كان ماهراً جداً سيستخلص هذا الحديث من هذه الطرق كما يستخلص اللبن من بين فرث ودم، لا فيه من لون الدم، ولا فيه من رائحة الفرث، فإذاً بقدر تمكن هذا العالم بقدر إصابته في هذا الباب.
ولذلك الإمام الذهبي رحمه الله قال في كتاب "الموقظة في علم الحديث": أنا على إياس من وجود حدٍ للحديث الحسن، ليس له قاعدة حتى تستطيع أن تطبقها على كل حديث، أبداً.
فإذا كان هناك رجل عالم متمرس متمكن، أمضى أكثر من ستين عاماً في هذا الفن، فخالفه رجل مثلي في حديث ما، وأنت تعرف قدر الشيخ ناصر الدين الألباني، وقد تعرف قدري وقد لا تعرف، لكن إجمالاً أنت تعرف أن الشيخ أعلى كعباً، وأنت تريد أن تقلد واحداً منا، لا شك عند جميع العلماء أن الأولى والأصوب هو تقليد الأعلم والأكبر والأدين، وهذا ما يقولونه في باب الفقه، فيقولون: إن الإنسان يقلد في الحكم الشرعي الأعلم والأدين والأورع والأطول عمراً إلخ لماذا؟ لأنه أولى بإصابة الحق.