[الفرق بين تعظيم الصحابة للكتاب والسنة وبين المتأخرين بعدهم]
إن الفرق بيننا وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يظهر في قوله تبارك وتعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ}[الأعراف:١٦٩] ورثوا الكتاب! هناك فرق بين الذي قاتل من أجل آيات الكتاب وبين الذي ورثه، أنت ترى أن الرجل قد يخلِّف ثروة طائلة لأولاده، فترى كثيراً من أولئك الورثة ينفق هذا المال كله الذي جمعه والده في عشرات السنين، ويأتي الولد ويضيعه في عشية أوضحاها دون أن يذرف عليه دمعة، إنما الذي جمعه بكده وعرقه لا ينفق منه درهماً واحداً ولا ديناراً إلا إن علم أن هذا هو موضعه فيه؛ لأنه تعب عليه.
كذلك الصحابة ما كانوا ليخالفوا الكتاب أبداً، ولم يكونوا ليخالفوا قول النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم تحملوا الأذى من أجله، وما وصلنا الكتاب ولا السنة إلا على أشلاء أولئك الصحابة، والحروب التي خاضوها واستعذبوا الموت في سبيل الله عز وجل، من أجل أن يوصلوا إلينا هذا البيان نقلاً أميناً صحيحاً غير محرف، بخلاف أولئك الذين ورثوا الكتاب ترى أحدهم يحتج بالآية في غير موضعها، بل وبضد موضعها أحياناً، وتهون عليه، ويجاهر ويكابر.
هناك بعض أصحاب محلات الحلاقة يكتبون على جدران محلاتهم قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}[الغاشية:٨] وهذه الظاهرة موجودة عندنا في بعض محلات الحلاقة، ماذا يقصدون بكتابة هذه الآية؟ إنهم يقصدون بذلك أنه عندما يحلق اللحية مرتين يصير الوجه ناعماً والخد أملساً، فهذه الآية ساقها الله تبارك وتعالى مساق المدح لأهل الجنة، وهؤلاء يضعون الآية في غير موضعها بل ضد موضعها، لماذا هانت عليهم آيات القرآن الكريم إلى هذا الحد؟! لأنهم ورثوا الكتاب، لم يحسوا بقيمة هذا القرآن.
كذلك ترى مكتوباً في محل عصير أو شراب:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}[الإنسان:٢١]، هل هذا هو الشراب الطهور الذي أراده الله تبارك وتعالى من الآية؟! بل وترى بعض الذين يحملون القرآن الكريم -أي: يحفظونه عن ظهر قلب- مخالفات عجيبة.
حدثت عندنا قصة وهي: أن أحد الأثرياء ماتت والدته، فأراد أن يأتي بأشهر قارئ ليقرأ لها، فأتى بقارئ كبير ومشهور جداً، وإنما يسمع الناس صوته في الإذاعة، ولم تكتحل أعينهم برؤياه، فلما علموا أن القارئ الإمام سيقرأ في العزاء أتوا من كل حدب وصوب، ومن كل فج بعيد؛ حتى يرون هذا القارئ.
هذه القصة حدثت قبل عشر سنوات، يعني من نحو خمسة عشر عاماً، فلما ذهبوا ليتعاقدوا معه، قالوا له: بكم تقرأ ثلاثة أرباع؟ قال: أقرؤها بأربعمائة جنيه، الأربعمائة جنيه في ذلك الوقت كانت قيمة عالية، قالوا له: خذ المال، قال: أرسلوها إلى البنك الفلاني، انظروا! وكأن هذا القارئ لم يقرأ قط قوله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}[البقرة:٢٧٦]! وكأنه لم يقرأ قط قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:٢٧٨]، كأنه لم يقرأ هذه الآيات! بل قال: أرسلوها إلى البنك الفلاني، وجاء الرجل وقرأ، والناس ينصتون ليس لآيات القرآن، إنما ينصتون للصوت، هم منسجمون مع الصوت، حتى أن قارئاً كان يقرأ:{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة:٣٢] قام رجل وقال: الله يزيدك يزيده ماذا؟! أكثر من سبعين ذراعاً!! وأحياناً تقرأ هذه الآية:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}[الزمر:٧١] يقول بعض الحاضرين: اللهم اجعلنا منهم، هو لا يدري زمر الجنة من زمر النار، إنما يسمع للتطريب فقط، فانسجم الناس، المهم طلبوا ربعاً رابعاً، قال: أنا مرتبط بأعمال، حسن! خذ ما شئت من المال، الذي طلب منه مواصلة القراءة هو ذلك الرجل الثري؛ لأن الحاضرين في عزاء والدته عدد ضخم جداً، وهم يتفاخرون بذلك، أبى، فقال له بعض الناس: لماذا تغالي في أجرك؟! أربعمائة جنيه في ثلاثة أرباع! لماذا تغالي في أجرك؟! فقال -ما أدري مازحاً أم جاداً، مع أن المزاح في هذا لا يجوز- قال: ألم يقل الله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}[البقرة:٤١] أنا أعتقد أن هذا الرجل لو قصد واعتقد هذا المعنى لكفر، فإن الدنيا كلها التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لو وضعت الدنيا في كفة ووضع شطر آية في كفة، لا يشك أحد أن هذه الآية بل وشطر الآية أفضل من الدنيا كلها، وهل يظن أن هذا الرجل لو غالى حتى أخذ أموال الدنيا كلها أنه وفى هذا القرآن حقه؟! فإذا كان هذا حال الذين يقرءون القرآن كله، ويحفظونه عن ظهر قلب فكيف بغيرهم؟! ولقد نعلم علماًَ ضرورياً أن جل الصحابة كانوا يحفظون القرآن كاملاً، لكن الفرق بيننا وبينهم كبير.