للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة بني إسرائيل مع البقرة التي أمروا بذبحها]

قصة البقرة هي قصة تتعلق ببني إسرائيل -باليهود على وجه الخصوص- قتل قتيل منهم فاحتاروا من الذي قتله فذهبوا إلى نبي الله موسى عليه السلام ليسألوه عن قاتل هذا القتيل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧]، وواضح أنه لا علاقة بين السؤال والجواب في الظاهر، فاعترض بنو إسرائيل لهذا الجهل، وهذا الفارق بين السؤال والجواب، وكان المفترض وهم يخاطبون نبياً ينقل عن الله صراحة لا ينقل عن رأيه أن يسلموا حتى وإن لم يعلموا الحكمة من الخطاب، فإذا صح نسبة خطاب إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد قط أن يعترض على كلام ينسب إلى الله ورسوله، بدعوى الجهل به، وأنه لا علاقة بين السؤال والجواب، هذا غلو وتنطع يعاقب الله عز وجل عليه، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) أي لما سألوه (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) تواضع فنسب الأمر إلى الله، ما قال: أنا آمركم أن تذبحوا بقرة، وحتى لو قال هذه العبارة لوجب أن يمتثلوا طالما أنه نبي مرسل من عند الله، كما أن في نسبة الكلام والأمر إلى الله قداسة.

فـ كعب بن مالك لما تخلف في غزوة تبوك، وتاب الله عليه وأنزل توبته، جاء كعب بن مالك فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ ولدتك أمك، قال: يا رسول الله! أهذا من الله أم منك؟ فقال: من الله، فقال كعب بن مالك: إذاً لا معقب لحكمه)، بمعنى أنه أكثر تثبيتاً للفؤاد وليس تشتيتاً، وليس هناك فرق بين ما يأتي من عند الله وما يأتي من عند النبي عليه الصلاة والسلام، إنما إذا جاء من عند الله مباشرة يسكن القلب مباشرة.

وكذلك عائشة رضي الله عنها، لما ابتليت في حديث الإفك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشري يا عائشة! قالت أم رومان: قومي إليه فاحمديه، قالت: والله! لا أحمده ولا أحمد إلا الله، وفي بعض طرق الحديث أنها قالت: أمنك أم من الله؟) فإذا قال موسى عليه السلام: إن الله يأمركم وجب عليهم التنفيذ، ومن المعلوم أن الأمر المجرد من الله عز وجل يفيد الوجوب، والوجوب هو طلب الفعل من المكلف على سبيل الإلزام ليس له فيه اختيار، فإذا قيل: افعل يجب أن يفعل، ليس هناك حل آخر، وهذا معنى الأمر، إذا جاء الفعل بصيغة الأمر أفاد الوجوب ابتداءً: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧]، إذاً واضح أنه مبلغ عن الله، وواضح أنه جاء بأمر ليس لهم فيه اختيار: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:٦٧] مع أن الكلام واضح أن الأمر من عند الله، قالوا: أتهزأ بنا وتسخر منا، وهذا سوء أدب؛ أن يعلم أن الأمر من الله ثم يرد هذا الأمر، ومعلوم أن الذي يستهزئ بالله عز وجل كافر.

نقل إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم أن من سب الله كفر، ومن سب دينه كفر، ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر كفراً مجرداً عن الإيمان، لا يوجد كفر دون كفر في هذه المسائل الثلاثة، يكفر بمجرد ما يسب يخرج من الملة فوراً وتترتب عليه كل أحكام المرتد، فيفرق بينه وبين امرأته، ولا يدفع عنه الحكم أن يقول: أنا كنت غضبان، ولا مغلوباً على عقلي، لأنه المعروف أن السب يعني تنقيص، ولا يسب ربه رجل فيه خير، وتوقير الله عز وجل لا يحتاج إلى علم، حتى يقال: أنا كنت جاهل، جاهل بقدر ربك، هذا كفر مجرد.

فكأنهم ينسبون موسى إلى الكفر، وينسبونه إلى الاستهزاء بالله عز وجل، وهو يصرح ويقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)، فيقولون: أتتخذنا هزواً، كأنما قالوا: أنت تهزأ بنا، ونقلك عن الله غير صحيح، هذا معنى أتتخذنا هزواً، فرد عليهم رداً رفيقاً، رغم بشاعة ما قالوا في حقه من نسبته إلى الاستهزاء بأحكام الله، قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:٦٧] رد رفيق ورقيق، وهكذا ينبغي عليك إذا رأيت جاهلاً أن لا تساويه في جهله فتكون جاهلاً مثله، رجل يسب لا تقل له اتق الله، لأنك إذا ذكرته بالله في غمرة الغضب سب الله، إنما سكنه ولا تقل له اتق الله، فإذا كان هائجاً والرجل يسب ويُرَجِّع في الكلام، ما هو المانع في غمرة الغضب أن يفعل ذلك، لا تعرض ربك للسب.

إن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن من يلعن والديه، قالوا: يا رسول الله! أو يلعن أحدنا والديه؟ قال: نعم.

يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه) رجل يسب رجلاً فالرجل يسب أباه وأمه كأنما هو الذي سبه لأنه هو الذي جره إلى ذلك، وقد قال الله عز وجل لنا مؤدباً وناهياً {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨]، وأنت عندما تسب حجراً أو شجراً أو خشباً، ما هو قيمة الخشب؟ سيرد عليك عابد الحجر بسب ربك، فلا تسب الأصنام، لماذا؟ لأنهم عندما يسبون رب العالمين يرتكبون جرماً عظيماً، بخلاف ما إذا أنت سببت حجراً أو شجراً أو مدراً أو أي معبود من دون الله عز وجل.

بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، فقد عزر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجلد رجلاً قال والله ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية جلده حد القاذف، وقال: نفيك عنهم الزنا وكونك تقول ذلك فيه إشعار إلى أنه زانٍ أو ممكن أن يزني، فوصل الأمر بصيانة الأعراض والتحذير من تهمة الزنا إلى هذا الحد، أن يجلد من ينفي الزنا عن والديه لأن فيه إشعاراً بأن هذا وقع منهما.

فموسى عليه السلام يرد على هؤلاء الجهلة الذين ينسبونه إلى الاستهزاء بأحكام الله عز وجل رداً رفيقاً، والرد الرفيق أبلغ، وهو يوصل الكلام إلى القلب، قد يكابر الرجل عندما يسمع الحجة، وهو بداخله مقتنع، لكن حمله الكبر على عدم الاعتراف، كما قال تبارك وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل:١٤] أي بلسانهم {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤] يعني هو في دخيلة نفسه يعلم الصدق، فأنت اجعل لقلبه طريقاً.

فإن الله تبارك وتعالى قال لموسى لما أرسله هو وأخاه هارون إلى فرعون {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤]، فرد موسى عليه السلام على بني إسرائيل: أعوذ بالله: أي ألجأ إليه وأحتمي به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (أعوذ بك منك) لأنه لا يحميك منه إلا هو، أعوذ برضاك من سخطك، هو هذا معنى أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة:٦٨] وهذا فيه جفاء أنهم لا ينسبون أنفسهم إلى الله، (اَدْعُ لَنَا رَبَّكَ) وهذا مثل قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:٢٤] وأيضاً: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة:١١٢] كأنه رب موسى عليه السلام وحده، والأخيار ينسبون أنفسهم إلى الله لأن هذا شرف كما قال يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣]، وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٠].

وهكذا (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) إذاً هم يسألون عن ماهية الشيء، ماهية الشيء حقيقته وأصله.

(اذبحوا بقرة) هذه لا تحتاج إلى وصف ماهية، لذا لو قال رجل لآخر: اشتر لي حماراً، فاشترى حماراً لأجزأه ذلك.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:٦٨] ثم جدد ذكر الأمر مرة أخرى، افتتح الكلام إن الله يأمركم، وبعد ذلك ختم فقال: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:٦٨]، تجديد الأمر ولفظ الأمر.

لا فارض: أي ليست مسنة كبيرة، كما قال الشاعر: يا رب ذي ظغن علي فارض له قرء كقرء الحائض يقول: إن هناك رجلاً كرهه لي فارض كبير، له قروء: يعني له حالات تهيج فيها عداوته علي كما تهيج الحائض في أوقات حيضها، فرب ذي ظغن علي فارض أي: كبير.

ففارض لا هي كبيرة جداً ولا هي بكر لم تحمل.

(عوان بين ذلك): متوسطة شابة، وهذا كلام واضح جداً.

(فافعلوا ما تؤمرون) لأنه يعلم أنهم لا يمتثلون لما يؤمرون به فأكد عليهم لذلك.

أنا والله -يا إخواننا- أقلب كفي عجباً بعد هذا الكلام المبين، نحن نثق بوعود هؤلاء اليهود وهم كاذبون -ولعن الله السياسة التي لا دين لها- رب العالمين يقول هؤلاء لا وعود لهم ولا عهد لهم ولا ذمة لهم، ومع ذلك نقول: لهم ذمة ولهم عهد، وهذه مخالفة صريحة للقرآن، نصف القرآن فيه ذم بني إسرائيل، وبيان لغدرهم وقتلهم للأنبياء وخلفهم للوعود.

ها هي الدولة الفلسطينية قالوا لهم: (١٨%)، بعد ذلك قالوا: (١٨%) كثير، إذاً (٣%) محمية طبيعية، (١٠%) يأخذوها، ثم اعترضوا على (١٠%)، وبقي (٧%)، وهكذا يتدرجون لصالحهم لأنهم لا مبادئ لهم ولا عهد ولا ذمة، ومطلوب الآن إخراج كل الآيات القرآنية التي تذم بني إسرائيل من مناهج التربية الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص ممنوع تدريس سورة البقرة، لأنها فيها عداء للسلام، وفيها تهييج للعداوات، وقد استجابت مدارسنا لذلك، تطبيعاً لسياسة السلام، فحذفت الآيات المتعلقة ببني إسرائيل من كتب الدين، وقد رأيت هذا بنفسي وقارنت بين المناهج السنة الماضية والسنة هذه وجدت أنه حُذف كلام رب العالمين آيات، وهذا مطبق الآن، وطالما المسألة خرج منها الدين والتقوى فسينتصر من هو أقوى عدة.

إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول للجيش إذا أرسله يغزو: (اتقوا الله واجتنبوا معاصيه؛ فإنكم إذا عصيتم ربكم استويتم مع عدوكم في المعصية؛ ففا