[الصنف الأول: بائع نفسه فموبقها]
في آخر سورة الفرقان ذكر ربنا تبارك وتعالى هذين الصنفين، لكنه قبل أن يذكرهما ذكر نعمه على عباده، وبعد ذكر النعم ذكر أحد الصنفين، وهو الصنف الذي أوبق نفسه وأدخلها النار، ثم أخر ذكر الصنف الصالح، وفي تقديمه للصنف الذي دخل النار عبرة وفائدة، تعلمها بعد سرد الآيات.
لقد امتن الله عز وجل على عباده بنعم عظيمة وكثيرة، فقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:٤٧ - ٥٤].
فتأمل هذه الآيات: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً) إلى آخر الآية، (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)، (وهو الذي مرج البحرين)، (وهو الذي خلق من الماء بشراً) ولكن ما هي النتيجة؟ {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:٥٥] إنما ابتدأ ربنا بذكر الكفر بعد تعداد النعم ليظهر لك العقوق، ليظهر لك عقوق الكافر بعد هذه النعم التي امتن الله عليه بها بأن عبد غيره سبحانه وتعالى، وكان ينبغي أن يشكر ولا يكفر.
ولكن {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:٥٥].
من الذي يعبد من يضره؟ من الذي يحب من يضره؟ إن الناس تحب الذي ينفع ويظهر النفع، وتكره الذي يضر.
من خصائص الإله أنه يضر، وهذا الضرر إما أن يكون بعدوك -أن يضر عدوك- أو يضرك أنت، فتعرف الألم الذي يصيبك ولا تستطيع أن تتحمله -فالمرض مثلاً- قد يكون ألمه في غاية الشدة، وهذه نعمة؛ لأن أعظم الأمراض الفتاكة يأكل الجسم بلا ألم، فأول ما يتألم المرء يكون الأمر قد انتهى ولم يعد ثمة فائدة لأنه إشعار لك بأن هذا الموضع من الجسد يحتاج إلى علاج ونظر طبيب، فالألم نعمة؛ لأنه ينبه إلى موضع المرض، وإلا فالأمراض مثل السرطان -عافانا الله وإياكم وأجارنا من الأمراض وسوء المنقلب- إنما يأكل بدن المرء فلا ينتبه إلا وقد انتهى الأمر.
إذاً: هذا الضرر نعمة.
كل إنسان في نفسه داعية الألوهية فلو ترك وما يريد لقال: أنا ربكم الأعلى، واعتبر بفرعون.
وإن فرعون قدر فأظهر وعجز غيره فأضمر.
وكل إنسان إذا استولى عليه الغرور لديه استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، فإنه إذا اغتنى وارتفع وتكبر يكاد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، كما حصل في سنة إحدى وثمانين عندما خطب رئيس الجمهورية آنذاك خطابه وضرب على المنضدة ضربة وقال: (أنا الحاكم، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) هكذا قالها في خطابه، وتكلم عن العلماء بكلام ممقوت بغيض، ووصفهم بمجانين السويد وغير ذلك.
فدل الواقع الذي يصير إليه الناس أن كل إنسان إذا استولى الشر على قلبه فإنه على استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى.
فإذا ابتلاه الله عز وجل بقاصمة له: مرض، فقر، ظلم؛ فإذا به يرتدع ويتوب، وهذه كلها قدر وضرر لكنها في تمام النفع لهذا العبد، فلو أنه تُرك وما يريد لدخل النار، فكان -إذاً- لابد أن يضره -رحمة به- ليوقفه عن اقتحام النار.
إذاً: من خصائص الله عز وجل أنه ينفع ويضر: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:٥٥] الكافر كلما وجد مناوئاً لله وضع يده في يده، فبدأ ربنا عز وجل بذكر هذه الصنف بعد تعداد النعم؛ ليظهر لك قبح الكفر وأهله.