هذا الشيء البدهي عند الصحابة صار مختلفاً فيه بعد ذلك.
وقد أشار الله عز وجل في عجز هذه الآية إلى شيء في غاية الأهمية، قال تعالى:{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:٢١]، إشارة إلى استكانة العباد إلى الأسباب، والإنسان بمجرد أن يبدأ بالعمل ويأتي بالأسباب على كمالها، يعتقد أن العمل لا بد أن يكون.
أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره؛ ولذلك يتقن الشيء ويظن أنه لا بد أن يحصل على مرامه، ولكن هيهات! قد يكون السبب قوياً وله صلاحية؛ ولكنه لا يصيب، كالمطر هل يكفي في إخراج البذر والنبات؟ لا يكفي، حتى تأتي الرياح، ولا تكفي الرياح حتى تنتفي الآفات عن الزرع إذاً لا بد من وقوع أسباب وانتفاء موانع.
وانظر إلى الرجل والمرأة: امرأة لا عيب فيها، ورجل لا عيب فيه، ورغم ذلك لا ينجبان، فمن ظن أنه بمجرد إنزال الماء يحصل الولد فهو جاهل، فكم من رجل أنزل ولم ينجب! وتحمل المرأة ولا يتم حملها، فلا بد من انتفاء الموانع.
إن الالتفات إلى الأسباب مسألة خطيرة جداً تقدح في التوحيد، كما قال بعض السلف:(الالتفات إلى الأسباب شرك، وترك الأسباب بالكلية قدحٌ في التشريع).
وفي قصة مريم عليها السلام أبلغ العبرة، فإن الله عز وجل قد يرزق العبد بدون أن يبذل أي سبب، وقد لا يرزق العبد إلا بسبب ولو كان تافهاً، فتحصيل الثروة العظيمة لا يشترط لها الجد والاجتهاد؛ بل قد تأتي بأدنى سبب، فهاهي مريم عليها السلام صحيحة، والأسباب متوفرة لديها لكسب القوت، ومع ذلك:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:٣٧]، بغير سبب! مع أنها مستطيعة، وليس بها مرض، فمن الممكن أن تكسب قوتها، ومع ذلك جاءها الرزق بلا سبب، فلما حملت وولدت وكانت في أشد حالات الضعف قال لها:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم:٢٥]، وفي قراءة أخرى (تسَّاقط)، ولفظ (تسَّاقط) يدل على كمية التمر الكبيرة التي نزلت عليها بهذه الهزة، وكان الأولى ألا تبذل السبب؛ لضعفها، فرزقها الله بدون سبب، وهي في كامل صحتها، فلما خارت قواها قال لها: هزي!