[استحباب إخفاء الورع]
بقيت فائدة أخيرة، وهي فائدة طارئة، قوله: (أما قد قلت ذلك؛ فإني أنظر ما يخرج منها) فيفهم من هذا أنه يستحب أن تخفي ورعك؛ لأن هذا الرجل لولا أن ذاك سماه باسمه وهو لا يعرفه لما قال له ما الذي يصنعه، (ما اسمك يا عبد الله؟ قال: ولم تسألني عن اسمي.
قال: إني سمعت صوتاً في السحابة الحديث، قال: أما قد قلت ذلك -أي: أما قد انكشف الأمر- فإني أنظر إليها وأفعل كذا وكذا) وهذا كان هدياً يتتبعه أسلافنا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
كان محمد بن واسع -رحمه الله، وهو من أجل التابعين، صاحب القولة المعروفة: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحدٌ أن يجالسني.
يبكي طوال الليل، فإذا أصبح الصباح اكتحل حتى لا يظهر ذبول عينيه من البكاء، يخفي طاعته! وهذا الورع كان ملكة عند أولئك، ما كان تصنعاً، كما أنك تتمسك تلقائياً كانوا يتورعون أيضاً، كثير من الإخوة يقول: نحن نقرأ في كتب السلف وفي تراجمهم عن ورعهم الشديد، فأريد أن أصنع مثلهم فأعجز وأفشل، وأرجع بخفي حنين، فكيف السبيل إلى ذلك؟ فيقال: إن هؤلاء ما وصلوا إلى قمة الهرم إلا بعد أن اجتازوا مراحل: فعل الواجبات، ثم عرج على المستحبات، وانتهى عن المحرمات، وتجنب المكروهات.
إذا فعل هذا وصل إلى الورع، كيف يتورع من يترك الواجبات؟ كيف يتورع من هو مصرّ على فعل المحرمات ومكثر من فعل المكروهات؟ لا يصبر، إن أراد أن يتورع يعلم من نفسه أنه كاذب؛ لذلك لا يستمر.
يعزى لبعض العلماء -ويقولون أنه الإمام أبو حنيفة رحمه الله- سرقت شاة في زمانه، فأتى قصاباً أو رجلاً راعياً وقال: كم عمر الشاة -أقصى شيء تعيشه الشاة- قال له: خمس سنوات، فامتنع من أكل لحوم الشياه لمدة خمس سنوات مخافة أن يشتري من نفس الشاة المسروقة.
يأتي بعض أولئك المقصرين فيقولون: هذا تنطع، نحن لم نؤمر بذلك! نقول: أنت في واد وهو في واد آخر، هو في قمة الهرم، وأنت أسفله، نحن نعلم أن ورع المتقين لا يثبت حكماً، لو صحت هذه النسبة للإمام أبي حنيفة لا نستطيع أن نأخذ منها فتوى؛ لأن ورع المتقين لا يثبت حكماً، لكن نحن الآن لسنا بصدد إصدار الأحكام الشرعية، نحن -كما قلنا- على قمة الهرم، فهذا الورع ما يستطيع الإنسان أن يصل إليه ويصير ملكة لديه إلا إن قطع هذه الوديان والمفاوز حتى يصل إلى هناك.
في سير أعلام النبلاء: أن رجلاً سب وكيعاً - وكيع بن الجراح، الإمام العلم، شيخ الإمام أحمد - فماذا فعل وكيع؟ تركه، ودخل داره وعفّر وجهه بالتراب، ثم خرج إليه وقال: زد وكيعاً بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه.
من يستطيع أن يفعل هذا؟ لا يرد عليه، لكن يرجع اللوم على نفسه: (زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت عليه)! وكذلك في ترجمة الإمام العلم المصري عبد الله بن وهب رحمه الله أنه قال: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً -يريد أن يؤدب نفسه، فانظر إلى هذا الورع، فقال: نذرت، حتى يجد الوفاء بالصوم، يعني نفسه لا تسول له أن يترك فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم -لأنه يغتاب- نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، قال: فمن حبي للدراهم تركت الغيبة) مشقة أنه في كل يوم يتصدق بعشرة دراهم أو عشرين درهماً.
ما يضره أن يتعب نفسه الآثمة؛ لأن هذا يحمل على مزيد من الورع.
ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جمع أصحابه وصعد المنبر، وسكت ملياً ثم قال: (أما إني كنت أرعى غنم بني فلان على لقيمات، وبكى ونزل.
قالوا: يا أمير المؤمنين! ما قلت شيئاً -يعني: الذي قلته نحن نعرفه، ما زدت شيئاً- ماذا أردت؟ قال: حدثتني نفسي أنني أمير المؤمنين، فأردت أن أذلها)! يذلها بأن يذكرها أدنى أحواله: أنه كان يرعى غنم بني فلان على لقيمات أو على دريهمات.
لما جاء الطيب -صدقات أو زكوات- إلى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه الخليفة الخامس الراشد- ودخل، وطبيعة الحال أنه إذا كان هناك مكان به طيب أن تنتشر رائحة الطيب في المكان، فماذا فعل عمر؟ أول ما دخل أمسك بأنفه، قيل: يا أمير المؤمنين! هذه مجرد رائحة أنت ما أخذت منه شيئاً! فقال لهم: وهل ينتفع إلا بريحه؟! الطيب لا ينتفع إلا بريحه، فكأنه لم ير لنفسه حقاً أن يشم هذا الريح برغم أنه منتشر في المكان.
أهل التقصير يرون أن هذا من التنطع، لكن هذا ملكة عند أولئك؛ لأنهم أهل الورع.
كانوا يخفون ورعهم ويظهرون آثامهم، قال ابن جريج رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له.
لو سألت أي طالب علم: لمن طلبت العلم؟ سيقول: لله، والله أعلم بحقيقة نيته.
الإمام الذهبي يقول كلاماً معناه: ولو سألت أي فقيه: لمن تعلمت العلم؟ لبادر وقال: لله، ويبرر نفسه الحمقاء.
وابن جريج رحمه الله يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له.
أي أنه عندما طلب العلم طلبه ليقال: محدث أو فقيه، لكن كان عنده إخلاص في الجملة، وعلم الله عز وجل إخلاصه ذلك، فلما حصّل الأدلة الشرعية انتفع بها، فعاد العلم لله، مع كونه لما بدأ كان يريد أن يشار إليه بالبنان، فيقال: هذا فقيه أو هذا محدث، لكن مع تحصيل العلم، وتصحيح النية؛ أصبح مخلصاً لله تبارك وتعالى.
فهذه الجزئية في هذا الحديث: (أما قد قلت ذلك) فيها إشارة إلى أن هذا الرجل لو لم يقل له هذا الأمر لما صرح له بهذه القسمة العادلة التي نال بها مطراً أو ماءً خاصاً من السماء، ينادى فيها باسمه.
وهذا أيضاً داخل في فائدة عظيمة جليلة، لكن الأمر يطول بها، وهي: كرامات الأولياء، ولعلنا نتعرض لمثل هذا المبحث في مرة أخرى إن شاء الله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
نسأل الله عز وجل أن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله.