متى يكون العلم واجباً عينياً؟
معرفة فقه البيوع فرض عين على التجار، لا يعذرون بجهلهم في هذا الباب، طالما أنه دخل في التجارة لا بد أن يدرس فقه البيوع دراسة جيدة، وهو ليس فرضاً عينياً علي مثلاً، فإن فرائض الأعيان بعد المتفق عليه، بعد معرفة التوحيد ومعرفة تصحيح العبادات وهذه الأشياء، هناك أشياء تتفاوت، ممكن تكون فرضاً عينياً على إنسان، وفرضاً كفائياً على رجل آخر.
فالرجل صاحب المال إما عالماً وإما طالب علم، وإما أن يكون ملاصقاً لعالم يستفتيه ويستشيره، فهذا الإمام البخاري كان والده تاجراً، وقد بارك الله تعالى له في تجارته، فقال لابنه -الإمام البخاري - أثناء الموت: يا بني! تركت لك ألف ألف درهم، ما أعلم درهماً فيه شبهة، لم يقل: ما أعلم درهماً حراماً، لا، الرجل بعيد، لأن المناطق ثلاث: منطقة الحلال المحض، ثم منطقة الشبهة، ثم منطقة الحرام، فما بين الحلال والحرام منطقة واسعة جداً، وهي منطقة الشبهة، إذا قفزت السور من باب الحلال ودخلت في الشبهة فأنت تقترب شيئاً فشيئاً من الحرام، لكن الرجل لو اتقى الشبهة يظل في منطقة الحلال المحض، بينه وبين الحرام مفاوز بعيدة.
والد الإمام البخاري ليست له رواية، ولو كانت له رواية لكان ابنه الإمام البخاري روى عنه وأثبت له رواية، فما الذي أوصله لهذه المرتبة؟ ليس عنده درهم فيه شبهة فضلاً عن الحرام؛ لأنه كان ملاصقاً للعلماء، دائماً يمشي مع العلماء، ولقد كان يصاحب سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والواحد من هؤلاء يزن بلداً، فهو حين يلتقي بهؤلاء جميعاً كلما عنَّ له شيء فيه شبهة يسأل العالم: أفعل أم لا أفعل؟ أو هل فيه شبهة أم لا؟ فيقول له، فانتفع بصحبة العلماء إذ لم يكن مؤهلاً لأن يكون عالماً.
فلأن حسن العلم ذاتي، وأن العلم هو الحكمة، كما فسرته الرواية الأخرى: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها) وفي الرواية الأخرى: (رجل آتاه الله العلم) فالعلم هو الحكمة، والحكمة حسنها ذاتي، ولذلك عندما تقرأ قوله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥]، انظر الترتيب الجميل، لم يقل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة الحسنة)، لأن الحكمة حسنة في ذاتها فلا توصف بها أصلاً، لكن الموعظة يمكن أن تكون جافة، فمثلاً قد يخرج عليك رجل غليظ الرقبة يتهجم ويشتم وهو يعظ، وحين يخوّف بالنار ينسى أنه من البشر أيضاً، ويندد بالمعاصي التي قد يكون هو مقيماً على بعضها، فلذلك لما ذكر الله عز وجل الموعظة وصفها بالحسنى، ولأن الرجل قد يعظ بدون شد وجذب، فوصفها بالحسن، وفي أثناء الجدال أمرك بالأحسن، لا بالحسن فقط، لأن الجدال فيه أخذ ورد، وفيه حظوظ للنفس، فالإنسان حين يذهب ليناظر إنساناً، فإنه يكون حريصاً جداً أن يغلبه ويسحقه ويقيم عليه الحجة، وهذا مما هو مركوز عند الإنسان، أعني حب الظهور، ولذلك عندما تغالب نفسك تؤجر؛ لأنك تجاهد ما هو مغروز فيك، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) دل هذا الحديث على أن المركوز هو ألا تحب لغيرك ما تحب لنفسك، لذلك كلما غالبت وتعبت ارتقيت، فالمركوز في النفس هو محبة العلو، لاسيما بسلطان العلم، فحروف العلم وسلطانه أشد من سلطان المال والجاه، العلم سلطانه شديد جداً، لذلك الذي يُحرم الأدب والإخلاص في العلم يكون وبالاً عليه.
لقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أقوام فقال: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣] فتستعجب من هذا الرجل! المفروض أن العلم يضيء لصاحبه، فكيف إذاً ضل؟! نقول: إن عماه حصل من داخله، وإلا فالمصباح موجود، فمثلاً: أنت لو رأيت رجلاً معه مصباح، وهو (يمشي) وكلما واجه حفرة وقع فيها، بل لو فاتته حفرة يرجع حتى يقع فيها مرة أخرى، إذاً فالرجل لا يمكن أن يكون مستفيداً بنور الكشاف الذي معه، لأن عماه داخلي.
فسلطان غرور العلم شديد جداً، لذلك العلماء وضعوا آداباً لطالب العلم، فهو إذا لم يتق الله عز وجل، ولم يخلص النية لله كان وبالاً عليه، فـ ابن العميد كان صاحب الوزارتين، أي: كرئيس الوزراء في أيامنا، يقول: شهدت مرة مناظرة بين الطبراني وأبي بكر الجعابي، فكان أبو بكر يغلبه بدهائه والطبراني يغلبه بحفظه، فهما طرفا رهان، فهم متساويان، لم يغلب أياً منهما الآخر في المناظرة، فـ أبو بكر الجعابي قال له: عندي حديث ليس في الدنيا لأحد غيري.
قال له: وما هو؟ قال: حدثني أبو خليفة، قال: حدثني سليمان بن أحمد، قال: حدثني فلان عن فلان وساق حديثاً.
فقال له الطبراني: أنا سليمان بن أحمد، سمعه مني أبو خليفة فخذه مني عالياً.
قال: فاستحى الجعابي وفرح الطبراني، فتمنيت أن لم تكن الوزارة لي وفرحت كفرح الطبراني.
لما قال له: أنا سليمان بن أحمد، يعني الحديث عند الطبراني، وهو أخذه بواسطة عن الطبراني أيضاً: أبو خليفة عن الطبراني، قال له: لا، خذه مني مباشرةً عالياً، فالعلم حسنه ذاتي، كذلك يكون الغروبة شديد ولذلك قال علي بن أبي طالب (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).
تجد بعض الناس يدعي من العلم ما ليس له، في أي منحى من مناحي الحياة، ولو عيرته بالجهل لغضب، لكن لو وصفته بأي نعت آخر لا يهتز، لو قلت له: يا فقير، يقول لك: الأنبياء أغلبهم فقراء، ولازال الفضل موجوداً في الفقراء، والفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، ويظل يعدد فضائل الزهد والفقر فيغلبك.
ولو قلت له مثلاً: أنت لست ملكاً.
يقول لك: كم من أهل الأرض كان ملكاً، الأنبياء لم يكونوا ملوكاً، خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملكاً رسولاً أو عبداً رسولاً قال: لا عبداً رسولاً، فترك الملك، إذاً: وجود الملك ليس من العلم.
فقد يستطيع الرجل أن ينصب أدلة على أن عدم وجود هذه الصفة فيه أفضل، إلا ما يختص بالاتصاف بالعلم.