[ترجمة ليحيى بن يعمر]
وقبل أن أشرح الحديث أذكر ترجمة عن يحيى بن يعمر لأنني ما عرفت به، يحيى بن يعمر تابعي أدرك ابن عمر وابن عباس -والرواية هنا عن ابن عمر - وهو أول من نقط المصحف، وكان المصحف قبل ذلك يكتب بدون نقط، فهو الذي وضع النقاط على المصحف بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان رجلاً فصيحاً يستظهر كتاب الله عز وجل.
ويذكر أبو سعيد الشيرازي في كتاب أخبار النحويين البصريين أن الحجاج بن يوسف -وأنتم تعرفون أن الحجاج بن يوسف كان رجلاً غاية في البلاغة ووحشي الألفاظ وغريبها- مرة قال لـ يحيى بن يعمر: (هل وقفت لي على لحنٍ قط؟ فقال له: إن الأمير لا يلحن)، وهي إجابة لطيفة ذكية، فلم يقل له: أنت لا تلحن، ولكن قال له: إن الأمير لا يلحن، أمير الأمراء المحترم المؤدب لا يلحن، لماذا؟ لأنه كان من العيب أن يخطئ الأمير في الكلام.
وليس كأمراء آخر الزمان لا يقيمون لفظاً، لماذا؟ لأنهم لم يتأدبوا، ولكن وصلوا إلى الكراسي قفزة، بينما في القديم كان يربى الولد على سياسة الملك، فأولاد عبد الملك بن مروان كلهم: الوليد وهشام وسليمان كان يأتي لهم بكبار علماء اللغة ليعلموهم اللغة، وعلماء الحديث ليعلموهم الحديث، وعلماء الفقه ليعلموهم الفقه، ويشب الولد من صغره على الآداب، فإذا جلس في مجلس لا يجلس (كالأطرش في الزفة).
وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان هو الذي يقضي بين أهل العلم إذا اختلفوا، وكان الأمراء قديماً علماء وأدباء، وكان عندهم دراسة وفطنة، ففي إحدى المرات قال المأمون لشخص: (ما تأمر من السواك؟ -يعني: إذا أحببت أن تقول لرجل أن يستاك فما تقول له؟ - قال: استك يا أمير المؤمنين! قال: بئس ما قلت! فقال لآخر: وأنت ما تقول؟ قال: سُك يا أمير المؤمنين! قال: أحسنت) مع أن قول الأول غير مدفوع عن الصواب من جهة في اللغة، لكن هذا الرجل عنده ذوق، فكانوا يورثون الأدب والفطنة والكلام للأولاد.
ومرة دخل غلام على هارون الرشيد -وكان هارون يلبس خاتماً جميلاً- فقال للولد الصغير: (هل رأيت أجمل من هذا الخاتم؟ قال: نعم الإصبع التي فيه)، ولم يكن متوقعاً أن يجيب بهذه الإجابة الخطيرة، لأنه لو قال له: نعم هناك أحسن منه، فهذا غلط وعيب، وهذا الكلام لا يقال لأمير المؤمنين لأنه أحسن من يلبس، فلو قال له: نعم، الرجل الفلاني أو غيره، فهذا خطأ، ويكون هذا الولد ما تربى، وإنما قال له على البداهة: الإصبع التي فيه!! فكانوا يربونهم على الأدب وإقامة الكلام.
فقال الحجاج لـ يحيى بن يعمر: (هل لحنت قط؟ قال إن الأمير لا يلحن، قال: عزمت عليك -وكانوا يعظمون عزائم الأمراء، فإذا قال الأمير: عزمت عليك فكأنه حلف بالله- فقال له: نعم، غلطة! قال: في أي؟ قال: في كتاب الله، فقال الحجاج: ذلك أشنع، وأين في كتاب الله؟ فقال: أنت تقرأ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} [التوبة:٢٤] بضم الباء في كلمة (أحبُ) والصواب (أحب)، فكان الحجاج يقرؤها هكذا، فقال له الحجاج: لا جرم! لا تسمعني ألحن أبداً، ونفاه إلى خراسان، حتى يلحن الحجاج براحته، لأنه قال له: لن تسمعني ألحن أبداً، يعني: في عمرك لن تسمع مني كلمة خطأ بعد هذا اليوم، فكونه ينفيه أسهل من أن يصلح من نفسه.
فـ يحيى بن يعمر كان رجلاً يستظهر كتاب الله، وكان رجلاً عربياً سليقة، وهو أول من نقط المصاحف، فلما نفاه إلى خراسان وقعت معركة بين يزيد بن المهلب قائد الحجاج بن يوسف الثقفي وبين مجموعة، فبعث يزيد بن المهلب للحجاج تقريراً من أرض المعركة فقال له: فعلنا بعدونا كذا وكذا وظفرنا عليهم، وانتصرنا عليهم، ونحن في عرعرة الجبل وهم في حضيضه، فقال الحجاج: ما هي عرعرة؟! ما بال ابن المهلب وهذا الكلام؟ فقالو له: إن يحيى بن يعمر هناك، قال: إذاً، يعني: لا يأتي بهذا الكلام الخطير إلا رجل مثل يحيى بن يعمر، لكن يزيد بن المهلب من أين له عرعرة هذه.
وهذا يذكرني بـ أبي زيد الأنصاري أحد علماء النحو الكبار، وكان أنحى هؤلاء الثلاثة، فكان أنحى من الأصمعي وأنحى من أبي عبيدة، وهذا حكم أبي سعيد الشيرازي، يقول: إن أبا زيد الأنصاري لقي أعرابياً يوماً فقال له: ما المتكفف؟ قال: المتأدب.
قال: وما المتأدب؟ فغضب الأعرابي غضباً شديداً وقال: المحنبطي يا أحمق! و (المحنبطي) واضحة المعنى مثل الشمس، ولذلك قال له: يا أحمق! لأنه من المستحيل ألا تفهم (المحنبطبي) فهذه مصيبة، مع أنه كان فيه ذكاء بالنسبة لصغره، والمحنبطي: هو المنتفخ البطن، ويوصف الرجل القصير عالي البطن بأنه محنبطي.
فـ يحيى بن يعمر رحمه الله كان أول من نقط المصاحف، ثم كان ممن شارك في تقسيم المصحف إلى أرباع وأحزاب وأجزاء وكان ذلك بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي.