للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسئوليتنا نحو أبنائنا]

أقبل على الله عز وجل بنذر ولدك أن يكون أحد العلماء الشرعيين فيأخذون بيد الأمة، انظر كثير من الإخوان يعاني بأن ابنه ليس بنبيه، ويعلم ابنه اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية واللغة الألمانية! ويخرج الولد صفر اليدين من اللغة العربية، حتى أن هذا الأمر واقع -بكل أسف- وموجود عند كثير من الإخوة الذين يتصور أن وسطهم أنقى من وسط العوام، فتجد الولد يجيد كل اللغات إلا اللغة العربية فهو أعجمي فيها، ولقد عايشت هذا بنفسي عندما درست اللغة العربية في الكلية فوصل بي الأمر أنني كنت آخذ الكتاب من أوله إلى آخره إعراباً لا أكاد أخطئ في لفظة ولا في كلمة ولا في تعليق، وقبل أن أجيد اللغة العربية كنت أسوق الكلام مكسوراً، وإن قلت الشعر قلته ملحوناً، فإن قال لي قائل: لم رفعت هذا أو كسرت هذا؟ وقفت لا أدري شيئاً، أهذا الذي يجب على المسلم؟ أهذا الذي يجب علينا تجاه لغتنا العربية؟! فأنا أدعوكم -وأرجو الله عز وجل إن كنت صادقاً في هذه الدعوة أن يجعل لها محلاً في قلوبكم- إن لم يكن هناك نية فاستحضر النية في أن تربي ولدك بأن يكون عالماً شرعياً ربانياً، يأخذ بيد هذه الأمة، بعد أن جروا وراء الطب والهندسة إلخ، فإن الناس لا يفتئون يجرون وراء هذه، ولا أحد يجري وراء العلم الشرعي إذ لا وظيفة له، وهذا بكل أسف لمحناه ظاهراً في القرن السابع الهجري وما بعده، لمحنا بُعد الناس عن علم الحديث، وإقبالهم إلى علم الفقه بسبب الرواتب، لأن الفقيه له وظيفة، ويمكن أن يعين -مثلاً- قاضياً في الفتوى، ويمكن أن يعين إماماً وخطيباً، يمكن أن يعين مدرساً، أما علم الحديث فما يجدي شيئاً ولا يجلب لصاحبه رزقاً؛ فأعرض كثير من الناس عنه.

بل تجد الفقيه الكبير قد يُعرض عن الجهر برأيه في مخالفة مذهبه مثلاً أو في مخالفة الدولة حرصاً على الراتب، ونحن لا نعيبهم بهذا فهم بشر، وهذا حدث لـ تقي الدين السبكي -وكان أحد العلماء الذين اكتملت فيهم آلة الاجتهاد- فهو أحد الذين وقفوا ضد شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان له مساجلات كثيرة علمية ومناصحات علمية أيضاً.

قال ولي الدين بن عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم ولي الدين هذا ابن الحافظ زين الدين العراقي - لشيخه سراج الدين البلقيني: ما الذي جعل تقي الدين السبكي لا يسلك سبيل الاجتهاد كما سبقه شيخ الإسلام ابن تيمية وقصر نفسه على المذهب الشافعي؟ فسكت سراج الدين البلقيني ولم يجب، قال ولي الدين: عيبه أن ذلك من الأعطيات؛ لأن تقي الدين إن خالف المذهب الشافعي واجتهد وأخذ بالدليل وإن كان يعارض المذهب فهو يعتبر رأس المذهب الشافعي؛ أقصوه عن رئاسة المذهب، فلذلك لم يفعل ليحوز الراتب.

انظر هذا شيء من ضعف البشر، لكن هناك ألف حسنة في مقابل هذا عند تقي الدين السبكي رحمه الله.

فكان من أول القرن الثامن وما بعده الحرص الشديد على تعلم العلم الذي يجلب الراتب ظاهراً جداً وملاحظاً، وقد ظهر عندنا الآن بصورة فاحشة جداً، إن قلت: علمه العلم الشرعي، ولا داعي أن تدخله المدارس، أو تدخله الأزهر، أو تعلمه أنت وتتعاهده.

فيقول: ومن أين يعيش إذا كبر؟ فإنه لا بد من وظيفة، وعز العالم من عز الدولة، والدولة الآن لا تتبنى العلم الشرعي، إذا رأيت الدولة تهتم بالعلم الشرعي رأيت أعز رجلٍ فيها هو العالم، وإذا رأيتها تهتم بالفن، والرقص، وتهتم بكل هذه الأشياء المنكرة؛ فاعلم أن العالم الشرعي هو الذي يكون تحت الأقدام.

وهذا واضح جداً كالشمس ولا يحتاج إلى دليل، ففي مسرحية قال لي محدثي: في أول المسرحية أتوا بهيئة التدريس مدرسين وطلاب لينشدوا نشيد المدرسة، وهي تتكون من مدرس اللغة العربية، ومدرس الإسلامية، ومدرس الرياضيات إلخ، فقلت له: وكيف عرفت أن فيهم مدرس الإسلامية؟! قال: لأنه كان يلبس جبة وعمامة -أزهري- ثم بعد أن درسوا حصصهم أخذوا دوراً في الرقص البلدي، فكان أفضل من يرقص فيهم صاحب الجبة والعمامة، لدرجة أن الذي حدثني قال: وقعت على قفاي من شدة الضحك ودمعت عيناي - وليس دمعة حزن- على منظر هذا الشيخ وهو يرقص هذا الرقص بحماس بالغ.

هذا يدل على مهانة هؤلاء العلماء ونظرة الدولة للعلماء الشرعيين، يأتي فيرقص سبحان ربي!! والله إن آخر شيء يمكن أن أتوقعه أن يثور الناس، أو يتكلم العلماء الرسميون حتى ذراً للرماد في العيون، لكن أين العالم الرباني الذي يستنكر هذا ولو حتى على رقبته؟ ماذا يريد المرء إلا ذكراً خالداً؟ تصور لو أن رجلاً كان في منصبٍ، ثم ذهب إلى بعض صحف المعارضة وأدلى ببيان يستنكر فيه المخالفات الشرعية الموجودة، ويقول لهذا: أنا أقدم استقالتي.

فيقدم استقالته ويذهب، ما هي المشكلة؟ لا يفيق الإنسان إلا بعد أن يترك الكرسي، وهذا دليل على أنه ليس بعالم أصلاً، وإنما نقول: عالماً تجوزاً، ولأن هذه هي تسمية العوام له.

ولدينا مثال حي جداً: الدكتور زكريا البدوي، أنا لست أنسى له هذا الموقف في مسجد صلاح الدين -عذراً أنا أسمي لأن التسمية مهمة جداً في هذا العصر؛ لأنه لا يكفي أن نقول: ما بال أقوام، لأن الشر صار مستطيراً جداً من كل ناحية، حتى لا يدري المسلم أين الخير وأين منبعه؛ من كثرة الشرر المتطاير- في المنيل، وكان الشيخ عبد الرقيب صقر يجمع التبرعات لأفغانستان، وكانت هناك أشياء كثيرة، فأراد رئيس الدولة أن يصلي في هذا المسجد، وكان الدكتور هو وزير الأوقاف، فأمر بإخراج كل المعونات التي في المخازن -وهي لا تضر- ورماها في حديقة المسجد حتى تلفت أشياء كثيرة وهذا لماذا؟ من أجل أنه إذا مر لا تقع عينه على طبيخ، ولا يشم إلا أصل رائحة المسجد وما في البساط وما في الأدوية وما في الأحذية، وهذا شيء الدولة تتبناه ولا تمنعه: أن ترسل لأفغانستان المعونات، حتى جاءت الجمعة الثانية فقام الشيخ عبد الرقيب يدعو من قلبٍ حار والمسجد يكاد ينخلع من تأمين المصلين.

مرت الأيام وأخرج الدكتور من الوزارة، وإذا به يشتعل ناراً ضد الحكومة، ولعل المتابعين في الصحف أدركوا لفحة النار والهجير تخرج من قلب هذا الرجل على الأزهر وعلى شيوخ الأزهر: المنافقون الممالقون إلخ، وأين كنت يوم كذا ويوم كذا؟ لا يفيق الإنسان حتى يترك هذا المنصب، هذا يدل على أنه ليس بعالم أصلاً، فضلاً عن أن يوصف بأنه عالم رباني.

إن صلاح هذه الأمة لا يكون إلا بوجود العلماء الربانيين، ولئن كنا نعاني من عدم وجودهم فأنا أدعوكم إلى أن يجند كل واحد منكم ولداً من أولاده لدراسة العلم الشرعي، وحفظ القرآن الكريم، وأن يمشي على سير الصالحين حتى إذا وصل الولد إلى سن الخامسة عشر أجيز بالفتوى.

لو ضمنّا في هذه الأمة عشرة أو عشرين من هذا الطراز نأمل إن شاء الله عز وجل أن يصلح الله الحال، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن يجعل ما قلناه وما سمعناه قائداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً ليوم العرض عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله.