[محو الأسباب بالكلية نقص في العقل]
التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ومحو الأسباب بالكلية نقص في العقل.
هناك فرقة وكل يوم نرى منها العجب؛ وهي فرقة الفرماوية، والتي رأينا شيخها الفاني الهالك الضال عن نحو خمسة وتسعين سنة، هذا الرجل الكافر بالأسباب، يعتقد أنه إذا ذهب المريض إلى الطبيب فهو كافر!! يا أيها الأحمق! لم تأكل إذا جعت؟ لم تلبس؟ ومن الذي حاك لك ثيابك؟ أنزلت من السماء كثياب بني إسرائيل معلقة على الشجر؟! ألم يحكها حائك؟ والذي يحيك الثياب هو واحد منهم، لكن أجلوا تكفيره حتى توجد الولاية في قلبه، هذا الضال المضل كان وجماعته كل سنة يحرقون صحيح البخاري، لماذا؟ قالوا: لأن البخاري شيوعي! أليس من الاتحاد السوفيتي؟! أليس من بخارى؟! والله ما ندري الآن ماذا يقولون بعدما انهار الاتحاد السوفيتي؟! وانظر إلى هذا الجاهل وهو يقول: كل الأحاديث المنسوبة لـ عائشة وحفصة وأمهات المؤمنين كذب، لماذا؟ قال: لأن صوت المرأة عورة!! هل المرأة ولدت لتكون خرساء؟ لماذا خلق الله فيها الكلام؟ من قال: إن صوت المرأة عورة؟ صوت المرأة ليس بعورة، ولا أظن أنه يختلف في هذا أحد له مساس بالشرع، لكن الخضوع بالقول هو العورة، والخضوع بالقول شيء زائد عن مجرد الصوت، كامرأة يكون صوتها عادياً فتحاول أن ترققه، هذا القدر الزائد على الصوت هو الممنوع، لكن الصوت العادي ليس بعورة، والأحاديث والأقوال متواترة أن الصحابة والتابعين كانوا يدخلون على أمهات المؤمنين ويسألونهن من وراء حجاب.
ثم إن ربنا سبحانه وتعالى لما قال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:٥٣] فإذا كانت خلف الحجاب، وأنا لا أراها، وهي لا تتكلم، كيف أفهمها؟ فلابد أن يكون هناك صوت حتى أفهم المرأة التي لا أراها.
ذات مرة جاء أمر بتصوير كل المساجين، والفرماوية يرون أن التصوير حرام -وهو كذلك لا نختلف معهم في هذا، التصوير كله حرام إلا ما دعت إليه الضرورة، ونحن لا نملك من أمرنا شيئاً- لكن صدر الأمر إليهم وكانوا بضعة وثلاثين رجلاً فقالوا: ممنوع التصوير، وقد يقتلون دون شيخهم حتى لا يُصور، عندهم فداء لهذا الشيخ لا تتخيله، فاجتمعوا كلهم في زنزانة واحدة، والرجل عمره فوق التسعين، وعنده ضيق في الجهاز التنفسي يتنفس بصعوبة، فاجتمعوا جميعاً وصنعوا حاجزاً بشرياً خلف الباب، فأتوا وقالوا لهم: افتحوا الباب، قالوا: أبداً! لا يمكن أن نتصور، حرام! فرموا عليهم قنابل مسيلة للدموع وهم أبداً! لا يمكن أن يفتحوا، فلما امتلأت الغرفة بالدخان! وكاد الشيخ أن يختنق! قاموا ورفعوه إلى الشباك حتى وضع أنفه في الخارج ليتنفس.
فباءت كثير من المحاولات بالفشل، ثم قاموا معهم بآخر محاولة وهي الحصار الاقتصادي، فمنعوا عنهم الطعام، وتركوا شخصاً يقف على الباب حتى لا يتعاطف أي إنسان معهم، ولكن أصحاب الزنزانة التي في الدور العلوي فكروا! وقالوا: كيف نتركهم يموتون؟! هذا لا يعقل! فأخذوا حبلاً وربطوا فيه خبزاً وحلاوة وأنزلوه من الشباك من الخارج.
وانظر هنا إلى هذا الضال المضل! جعل يكبر: الله أكبر، ليلة عيسى، خبز وحلاوة! فاغتروا بهذا الشيخ حين وجدوه يضع يده في الهواء ويأتي بخبز، ثم يضع يده ثانية ويأتي بحلاوة، إذاً الرجل كلامه جد، فازدادت عقيدتهم في هذا الرجل، وهو كافر بالأسباب قليل العقل، لكن كما قال الشاعر: لكل ساقطة في الأرض لاقطة وكل نافقة يوماً لها سوق استفادت إدارة السجن من هذا الدرس فمزقوا الجماعات عندما نقلوهم إلى سجن آخر، فلا توجد جماعة بكاملها في زنزانة، إنما متفرقون، من كل جماعة خمسة حتى يحصل نوع من التفكك، فقدر أن يكون معنا اثنان من الفرماوية، وهم يقدسون لونين: اللون الأبيض، واللون الأخضر، اللون الأبيض لا يلبسه إلا ولي واصل، واللون الأخضر هو المهزلة الذي يعمل لأجل أن يأكل الذي يلبس القميص الأبيض، فصاحب اللون الأخضر رفعوا عنه كلمة الكفر مؤقتاً حتى توجد الولاية في قلبه ثم يصعد للدرجة التي تعلوها.
فكان معنا رجل ممن يلبسون الثياب الخضراء، يناقش طوال النهار والليل أن الأخذ بالأسباب كفر، فكان إذا قام جماعة التكفير يلعبون رياضة الصبح يقوم فيلعب معهم، أليس هذا من الأخذ بالأسباب؟! وكان إذا لعب رياضة فإن العرق يتصبب منه مباشرة، فيأتي وقت الراحة وزملاؤه يمرون ليسلموا عليه، فيغطي نفسه ببطانية، لماذا؟ لأنه لو رأوه وقد عرق يسألونه: ما بالك؟ فإذا علموا أنه يلعب كفروه مباشرة، فكان يغطي نفسه ببطانية ويبرز عينيه فقط، فيقولون: مالك؟ فيقول: عندي برد! برد في عز الحر؟! واستحلفني أن لا أقول لهم شيئاً.
شيء ضد العقل! لو قال رجل: إني أريد الولد بغير زواج، لاتهمه الكل بالجنون، ولو قال: إني أريد أن أشبع ولا أضع في فمي لقمة، يُتهم بالخبل، فمحو الأسباب بالكلية نقص في العقل لا شك، والإعراض عن الأسباب قدح في الشرع.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهل الوسطية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.