[ضرب المثل بخلق الذباب]
مثلٌ آخر: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٧٣ - ٧٤].
فانظر إلى هذا التعقيب! (قويٌ عزيز) بعد إثبات عجزهم أن يخلقوا أخس حشرة موجودة، سمي الذباب ذباباً؛ لأنه كلما ذبّ آب، كلما دفعته رجع إليك، فضرب الله عز وجل المثل بهذا الذباب الخسيس.
ولذلك استنكف المشركون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، فقالوا: أما يستحيي رب محمدٍ أن يضرب لنا المثل بالذباب والعنكبوت؟! فأنزل الله عز وجل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:٢٦] (فما فوقها): كالذباب والعنكبوت فهذا مثل يفهمه العقلاء.
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)): وأداة النداء من معانيها أو من فوائدها: التنبيه والإيقاظ، (يا) فأنت تعطي أذنك كل النداء، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) لما سمعوا النداء أصاخوا بآذانههم، {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:٧٣] ودائماً تضرب الأمثال في التوحيد، وليس في الأحكام الشرعية.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:٧٣] وأصل الخلق الإيجاد من العدم؛ لكن إذا بنيت على موجود لا يقال: خلقت؛ لأن هناك مغالطة حصلت في هذا العصر في مسألة الاستنساخ.
أول ما استنسخوا النعجة (دوللي) قالوا: لقد استطاعوا أن يخلقوا نعجة! وكذبوا؛ لأنهم أتوا بخلية من كائنٍ حي، والخلية هي من خلق الله عز وجل، فبنوا عليها فأين الخلق؟ لكنهم لبسوا على ضعاف العقول، وما أكثرهم! حتى قال قائلهم -وكفر بهذه المقالة-: إن ميلاد النعجة (دوللي) أعظم من ميلاد المسيح! فزعموا أن العباد فعلوا ما لم يفعله ربهم! ومع ذلك أفتى علماؤهم وأذكياؤهم: أن الاستنساخ تدمير للبشرية؛ لأن المستنسخ له نفس مواصفات الخلية، فلو أخذوا -مثلاً- خليةً من إنسان عمره -مثلاً- أربعون سنة، عنده مرض السكر والضغط والسل -أو أي مرض من هذه الأمراض- واستطاعوا أن ينموا إنساناً من هذه الخلية، فسوف يكون عمر هذا الولد الرضيع أربعين سنة، وسوف يكون وهو رضيع مريض بالسل والضغط وبكل الأمراض التي في الخلية، فتصور أن طفلاً رضيعاً به كل هذه الأمراض، وحين يصل إلى عمر عشر سنين سوف يمشي على عكاز! إذاً فنيت البشرية، أين طاقات الشباب وأين السواعد التي تبني الحضارات لما يكون ابن عشر سنين عنده كل هذه الأمراض؟! فالاستنساخ تهديد للبشرية كلها، فهل يستطيعون أن يخلقوا الخلية؟! هذا هو المذكور في هذا المثل ((لن يخلقوا ذباباً)) لا خلية الذباب ولا الذباب، ((ولو اجتمعوا له))، لا يوصف أحدٌ بأنه إله إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره على غيره ولا يغلب، فإذا غُلِب لم يكن إلهاً، وإذا أمر فلم يمض أمره لم يكن إلهاً.
فلو سلمنا جدلاً أن آلهتكم -أيها المشركين- كلها اجتمعت بطاقاتها ومواهبها وقدراتها جميعاً لا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً، وليس هذا فقط، بل هناك مسألة أحط من ذلك لا يستطيعونها أيضاً {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} وكأنه سبحانه وتعالى قال: لا يستطيعون، وأنا سأدلل لكم على أنهم أحقر من أن يخلقوا بأن أذكر شيئاً تافهاً لا يستطيعونه أيضاً.
((وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)) لا نكلفكم أكثر من طاقاتكم، ولن نقول: اخلقوا، عرفنا أنكم عجزة؛ لكن هذا ذبابٌ مخلوقٌ لله، وقع في إناء أحدكم وأخذ رشفةً من الشراب الذي يشربه، هل يستطيع أن يرجع هذا الشراب الذي أخذه الذباب من إنائه؟! هذه مرحلة أحط وأدنى من الأولى، ومع ذلك لا يستطيعونها {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:٧٣] المطلوب: هو الذباب الضعيف، والطالب: هو هذا الكافر الذي ملأ الأرض فساداً، وقال بعضهم: (أنا ربكم الأعلى)؛ لكنه عاجز عن استنقاذ شيء من الذباب: (ضعف الطالب والمطلوب).
فإذا كان هؤلاء الذين تعبدونهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، فهم لا يستوون مع الله، فلماذا فعلتم هذا، وساويتم بين الله وبين الآلهة التي لا تستطيع أن تخلق ذباباً؟ يا حسرتاه {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:٧٤] إذ سووا بينه وبين الذي لا يخلق ذباباً! {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٧٤].