للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشيخ الألباني وإحياء السنة]

أول معرفتي بشيخنا -رحمه الله- كانت سنة (١٣٩٥هـ) كنت أصلي في مسجد (عين الحياة) خلف الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، وبعد انتهاء الصلاة كنت أطوف على البائعين الذين يبيعون الكتب، ففي يوم من الأيام وقفت على كتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التسليم إلى التكبير كأنك تراه) فأخذت الكتاب بيدي وقلبته، ولكنه كان باهظ الثمن، فتركته ومضيت أبحث عن كتاب آخر، فإذا بي أجد كتيباً لطيفاً بعنوان (تلخيص صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني) فاشتريته بخمسة قروش، وتصفحته وأنا في طريقي إلى مسكني، فوجدت ما فيه يخالف ما ورثته من الصلاة عن آبائي؛ إذ أن كثيراً من هيئات الصلاة لا تمت إلى السنة بصلة؛ فندمت ندامة الكسعي أنني لم أشتر الآخر.

والكسعي هذا رجل يضرب به المثل في الندم، وقصته أنه كان رجلاً رامياً، وكان لا يخفق في رميه، فرمى بالليل ظباء، فظن أن السهم لم يصب الظباء فكسر قوسه، وقيل: قطع إصبعه، فلما أصبح وجد الظباء ميتة وسهمه فيها، فندم أنه كسر السهم، وصار مثلاً يقال: ندامة الكسعي ومنه قول الفرزدق: ندمتُ ندامةَ الكُسَعِيّ لما غدت منّي مُطلَّقةً نوار فندمت ندماً شديداً أنني لم أشتر ذلك الكتاب، وظللت أبحث عن ثمن الكتاب طيلة الأسبوع حتى وفقني الله عز وجل لشرائه في الجمعة التي بعدها، فلما قرأت الكتاب كنت كما قال القائل: (ألقيت الألواح، ولاح لي المصباح من الصباح) ووجدت نموذجاً فريداً في التصنيف، مع أنني ما كنت أفهم شيئاً قط من الحاشية التي كتبها الشيخ رحمه الله، ولكنني أحسست بفحولة وجزالة لم أعهدها في كل ما قرأته من قبل، فملك عليَّ هذا الكتاب حواسي، وكنت في كل جمعة أبحث عن مصنفات الشيخ ناصر الدين الألباني، حتى وقفت على كتاب (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة) وقفت على المائة الحديث الأولى، وهذا الكتاب هو الذي فتح عيني وأنار بصيرتي.

وكان لهذا الشيخ رحمه الله الفضل ليس عليَّ فقط، ولكن على أبناء جيل الإسلام، فإن هذا الشيخ المبارك كان له من الأثر ما لم يفعله كثير من العلماء، فما من رجل ينسب إلى السنة في هذا الزمان إلا وللشيخ عليه فضل، دق أو جل.

ومن بعدها لم أكن أصلي في مسجد عين الحياة خلف الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله؛ لأن الشيخ رحمه الله كان على رغم ما له من فضل، فكل المنتسبين إلى الصحوة هو الذي أجج فيهم نار الالتزام والحمية للإسلام، إلا إن أكثر من ستين أو سبعين بالمائة من الأحاديث التي يذكرها الشيخ رحمه الله كانت من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.

وللشيخ كشك رحمه الله عذر في ذلك؛ لأنه حفظ أحاديث كتاب (إحياء علوم الدين) لـ أبي حامد الغزالي، وأبو حامد الغزالي كان تام الفقر في علم الحديث، وكتابه من أكثر الكتب كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، وتستطيع أن تدرك ذلك بالنظر إلى حاشية الكتاب، وإلى تخريج الحافظ زين الدين العراقي المسمى بـ (المغني عن الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأخبار) فإن الحافظ زين الدين العراقي حكم على كل أحاديث هذا الكتاب، وأكثر من ستين أو سبعين بالمائة من أحاديث هذا الكتاب إما موضوع أو باطل أو منكر أو ضعيف أو لا أصل له، والقليل منها صحيح.

وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في الجزء الأول من السلسلة الضعيفة الأحاديث المشهورة على ألسنة الناس، وإذا بي أفاجأ أن أغلب الأحاديث التي حفظتها من الخطباء في الجمعة تدور ما بين المكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام والموضوع والباطل والضعيف والشاذ والمنكر إلى آخر هذه الأقسام التي هي من نصيب الأحاديث الضعيفة.

فعكر عليَّ كتاب الشيخ الألباني هذه الخطب، حتى أنني أصبحت أشك في كل حديث أسمعه، وفي يوم من الأيام سمعت الشيخ يقول على المنبر حديثاً وهو: (إن الله تبارك وتعالى يتجلى للناس عامة، ويتجلى لـ أبي بكر خاصة) لأول مرة أشك في حديث أسمعه وأقول في نفسي: ترى هل هذا الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ومع ذلك فقد انفعلت له لما أسمعه من صراخ الجماهير من حولي إعجاباً واستحساناً.

فلما رجعت إلى بيتي نظرت في سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ ناصر الدين فلم أجد هذا الحديث، فواصلت بحثي فوجدت هذا الحديث في كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) لـ ابن القيم رحمه الله، وقد حكم عليه ابن القيم بأنه موضوع على النبي عليه الصلاة والسلام.

وكان قد استقر عندي ببركة القراءة في كتب الشيخ الألباني أن التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة واجب أكيد، فقلت في نفسي: لابد أن أذهب إلى الشيخ وأبلغه أن هذا الحديث مكذوب.

وكان للشيخ كشك رحمه جلسات في مسجده بين المغرب والعشاء، فلحقت بالصف الأول حتى أكون في أوائل الناس الذين يسلمون عليه، فسلمت عليه وهمست في أذنه إلى أن الحديث الذي ذكره في الجمعة الماضية وسميته قال عنه ابن القيم رحمه الله: إنه موضوع على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لي الشيخ: بل هو صحيح، وقال لي كلاماً لا أضبطه الآن، لكن خلاصة هذا الكلام أن ابن القيم لم يكن مصيباً في حكمه على هذا الحديث بالوضع، ولم يكن هناك وقت للمجادلة؛ لأن هناك طابوراً طويلاً خلفي، وكلهم يريد أن يسلم على الشيخ ويسر إليه بما يريد.

وكان مما حز في نفسي أن الشيخ كشك رحمه الله سألني عن العلة في وضع هذا الحديث، فقلت له: لا أدري.

فقال لي: يا بني! تعلم قبل أن تعترض.

فمشيت من أمامه مستخزياً، وخرجت من عنده وكلي إصرار أن أدرس هذا العلم، حتى أعلم ما هو السبب في أن الحديث موضوع أو ضعيف أو باطل.

فكان من بركات الشيخ الألباني عليَّ وعلى كثير من أمثالي أنني تمذهبت بمذهب أهل الحديث؛ لأن التمذهب بمذهب أهل الحديث بمثابة طوق النجاة، ولم أتقلب يميناً ولا شمالاً، ولا تعدد انتمائي للجماعات المختلفة أبداً، وكان الفضل في ذلك بعد الله للشيخ الألباني رحمه الله.

فطفقت أسأل إخواني عن شيخ يدرس هذا العلم، فدللت في ذلك الوقت على شيخنا الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وكان يعقد هذه المجالس في بيت طلبة ماليزيا، وكان يدرس كتباً أربعة: كان يشرح صحيح البخاري، والمجموع للنووي، وإحياء علوم الدين للغزالي، والأشباه والنظائر للسيوطي.

فوجدت في هذه المجالس ضالتي المفقودة، ودرست عليه نبذاً كثيرة من علم الحديث، ولكن قلبي متعلق بكتب الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله.