للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العلم قاضٍ على كل شيء

ومن شرف العلم: أن العلم قاضٍ على كل شيء في الدنيا: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [يونس:٦٨]، وكل سلطان ورد في القرآن إنما هو سلطان الحجة: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس:٦٨] هل عندكم حجة بهذا؛ بأن لله ولد؟ والحجة هي: حجة العلم.

وقال تعالى في مجادلة يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:٤٠] أي: ليس عندكم حجة تستطيعون أن تقيموا بها قولكم أن مع الله آلهة أخرى؛ فالسلطان في القرآن هو الحجة، إلا في قوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٩] فلأهل العلم فيها قولان: القول الأول: الناس والحكم والجاه.

القول الثاني: العلم.

فقوله: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٩] أي: انقطعت حجتي أمام الله، أو زال مالي وجاهي.

فالعلم قاضٍ على كل شيء، وقد تنازع العلماء أيهما أفضل: مداد العلماء، أم دم الشهداء؟ وفي هذه المفاضلة دلالة على تفضيل العلم أيضاً؛ فإن قلت: من أي وجه؟ نقول: لأنه سيقضي على أحد الخصمين العلم: فإذا قلت: دم الشهداء؛ فلا بد أن يكون عندك علم.

وإذا قلت: مداد العلماء؛ فلا بد أن يكون عندك علم، فالعلم هو القاضي والخصم.

فإن قلت: فكيف يكون العلم خصماً، والأصل أن الخصم لا يكون حكماً؟ فنقول: هذا شرف أيضاً لمرتبة العلم؛ لأنه لماذا لم يُجعل الخصم حكماً؟ لأنه سيميل إلى انتصار نفسه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان)، لماذا؟ لأنه إذا قضى وهو غضبان قلت مواهبه، وسيميل مع حض نفسه أو مع هواه، ولكن إذا أمن القاضي على نفسه أنه لن يحيف أو يجور وهو غضبان حل له أن يقضي وهو غضبان، وليس هذا إلا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يكتب ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فأمسك عبد الله عن الكتابة فقال له: (لم لا تكتب؟ قال: يا رسول الله! أنت غضبان.

قال: اكتب، فوالذي بعثني بالحق -أو والذي نفسي بيده- ما أقول إلا حقاً) فاستوى غضبه ورضاه في الحكم؛ لأنه لا يحيف إذا غضب، إنما يحيف أمثالنا.

لذلك يُنهى جميع الناس بدءاً من أبي بكر الصديق إلى أقل الناس أن يقضي بين اثنين وهو غضبان، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن غضبه يستوي مع رضاه؛ لأن مظنة الحيف في الحكم منتفية عنه، فإذا كان العلم هو الخصم والقاضي كان ذلك أرفع لرتبة العلم؛ فالعلم قاضٍ على الممالك، وقاضٍ على الناس جميعاً، والناس مقبورون تحت سلطان العلم أكثر من سلطان الأمراء، فإن العلم ينقاد له القلب، أما سلطان اليد فينقاد له البدن.

فهل كل قرارٍ أصدره أمير أو حاكم رضيت عنه الرعية؟ كثير من الناس ينفذون الأوامر وهم كارهون، ويدعون على الذي سن هذا القانون، ويلعنونه في الصلوات وفي الجهر والسر، فهم ينقادون له عنوة، بخلاف العالم؛ فإنه إذا بسط حجته انقاد القلب له، والقلب ملك البدن، فإذا انقاد القلب انقادت الجوارح تبعاً لانقياد القلب، مع الفرق الهائل بين هذا الانقياد والانقياد لسلطان الأمير.