قال:(فبينا أنا أصلي الفجر على ظهر بيت من بيوتنا؛ إذ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته) أوفى أي: اقترب من جبل سلع، (يا كعب بن مالك! أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعلمت أنه جاء فرج) في هذا دليل على مشروعية سجود الشكر، وأن الإنسان إذا جاءه خبر سار، أو رأى ما يسره أن يخر ساجداً لله تبارك وتعالى، وهذا الموضع دليل على هذا الحكم.
وأيضاً في واقعة أخرى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما قتل ذا الثدية، فلما قتل قال علي بن أبي طالب:(التمسوه فوالله ما كذبت ولا كُذِّبت، فالتمسوه فوجدوه مقتولاً بين القتلى، فخر ساجداً شكراً لله تبارك وتعالى).
قال:(فعلمت أنه جاء فرج) وفي بعض الروايات الأخرى قال: (فأرسلت لي أم سلمة من يهنئني، وكانت بي بارة) أي: أن أم سلمة كانت تبر كعب بن مالك، فأول ما عرفت بنزول الوحي أرسلت رجلاً إلى كعب بن مالك يبشره، ولكن هذا الصارخ على جبل سلع كان أول من وصل إلى كعب، وفي هذا دليل على استحباب المبادرة والمسارعة إلى تبشير المسلم فهذا يدل على الحب، كوننا نتسابق أن نبشره، هذا يدل على أن هناك نوعاً من المحبة والمودة بيننا.
(قال: فجاءني الرجل، وكان الصوت أسرع من الفرس) فهذا الرجل لشدة فرحته صوته كان أسرع من الفرس، وهذا يدل على مدى شفقة المسلمين وحبهم لبعضهم، كما قال الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:١٠] أي: لا يتتبعون عثرات بعض، ويعذروا بعضهم، ويلتمسون لإخوانهم العذر، كما قال الحسن البصري رحمه الله:(إذا جاءك عن أخيك ما تكرهه فقل: له عذر) جزماً وقطعاً معه عذر، (فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل له عذراً) وأجل محاكمة أخيك إلى أن تلتقي به، ولكن مجرد أن تلقاه لا تتهمه أيضاً، ولا تبادر بالاتهام، لكن قل: بلغني عنك كذا وكذا وأنا استبعدته، فهل ذلك صحيح؟ فقد يقول لك: نعم هذا صحيح، وأنا تورطت فسامحني، أو يقول لك: أنا لم أقل.
المهم أنه سيجلِّي لك الأمر فأنت بعد أن يحصل عندك نوع من المواجهة بينك وبينه تقيِّم خطأه، وتقول بينك وبين نفسك: كلامه مقنع أو غير مقنع، ثم تبدأ تقيِّم جرمه، ولكن أذكرك دائماً بقول من قال من سلفنا:(إن من النبل أن يكون عفوك أوسع من ذنب أخيك)، وهذا النبل إنما يحرزه كرام الناس، يقول: الشاعر: والعذر عند كرام الناس مقبول.
سوء الظن تكسب به سيئات، وحسن الظن تكسب به حسنات، وسوء الظن إما أن يكون في محله أو في غير محله، وحسن الظن إما أن يكون في محله أو في غير محله، فإن أسأت الظن فكان في محله لم يكن لك ولا عليك، فإن لم يكن في محله أثمت، حسن الظن إن كان في محله أُجرت، وإن لم يكن في محله ازددت أجراً، فسوء الظن يدور ما بين عدم الأجر والإثم، وحسن الظن يدور ما بين الأجر وزيادته، فتعبّد الله بحسن ظنك بأخيك؛ لأن هذا نابع من المحبة الصادقة، وأولى الناس أن تجد له عذراً أخوك الذي تحبه ويحبك، وقد كان بين الصحابة قصص كثيرة جداً في هذا الباب، بعضها يستجلب دمعك ولو لم يكن في محجريك قطرة من الدمع، للصورة الباهرة التي كانت بين الصحابة رضوان الله عليهم.
قال كعب:(فجاءني الرجل فهنأني، فخلعت عليه ثوبيَّ، والله ما أملك غيرهما يومئذ) وفي هذا دليل على استحباب إعطاء البشير، عندما يأتي يبشرك ببشرى شيئاً لهذه البشرى، وكعب بن مالك أعطاه كل ما يملك من الثياب آنذاك، وكانوا يلبسون إزاراً ورداءً، وهذا معنى ثوبيه، وليس معناه أنه خلع الذي عليه ودخل وأحضر الذي في الداخل، لا، فالصحابة كانوا فقراء، وكان الواحد منهم يلبس إزاراً وقد لا يكون عنده رداء، قال:(واستعرت ثوبين).