وانظر إلى أثر التشديد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، الذي رواه الشيخان وأحمد -والسياق لـ أحمد - قال عبد الله بن عمرو بن العاص:(زوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش، وعبد الله بن عمرو بن العاص كان من المجدين في العبادة، فأول ما دخل بامرأته تركها وقام يصلي من الليل، فأبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه خشي أن يكون عبد الله فعل هذا الأمر -قام الليل وترك امرأته- فذهب في الصباح يسأل المرأة: ما حال عبد الله معك؟ قالت: عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فجاءني أبي فشتمني وعضني بلسانه، وأسمعني هُجراً -أي: كلاماً شديداً- وقال: زوجتك امرأة ذات حسب من قريش فعضلتها! ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاه، فأرسل إليه، فقال: يا عبد الله! كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرؤه كل ليلة -انظر الجد- كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم -ما هذا؟! ما هؤلاء؟! يعني يبلغ به الجد أن يقرأ القرآن كل يوم، ويصوم كل يوم؟! - فقال له: اقرأ القرآن في أربعين -انظر اليسر، قال له: اقرأه كل أربعين يوماً مرة- قال: إني أستطيع أكثر من ذلك.
قال: فاقرأه كل شهر.
قال: إني أستطيع أكثر من ذلك.
قال: فاقرأه كل جمعة.
قال: إني أستطيع - يعني أقدر أكثر من ذلك- قال: فاقرأه في ثلاثة أيام.
قال: إني أستطيع.
قال: اقرأه في ثلاث، لا تقرأه في أقل من ثلاث، فإن من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه -لأنه سيقرأ بسرعة جداً، لا يفقه القرآن حينئذ- ثم قال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم.
قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر.
قال: إني أستطيع.
قال: صم صيام داود، صم يوماً وأفطر يوماً، يا عبد الله! إن لأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه).
ما الذي حصل؟ صار عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ القرآن كل ثلاث، ويصوم يوماً ويفطر يوماً أيام الشباب، ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عمرو بن العاص مجد، لكنه، بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بزمان كبر وشاخ، وصار لا يتحمل، لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، لكنه لا يريد أن يقلل من عبادة تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، لا يريد أن يقل، فماذا قال؟ كان يقول:(يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
شدد على نفسه، وكان بوسعه أن يقبل الرخصة، لكنه لما شدد على نفسه شقي بذلك وتعب، حتى إنه كان يفطر الأيام الطويلة المتتالية يتقوى، ثم يصوم بدلها سرداً -يوم وراء يوم- يفطر عشرة أيام، ويأكل لكي يقوي بدنه، بعد ذلك يصوم عشرة أيام متواصلة، لا يريد أن يكون أقل في العبادة عما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيتم إلى الغلو؟ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
انظر إلى الكلام الجميل! رجل مستعجل، يريد أن يدرك أقرانه، هو راكب دابة، فمن شدة استعجاله ظل يضرب في الدابة حتى قتلها، فوقف مكانه، لا أرضاً قطع -لا هو مشى- ولا أبقى الظهر الذي كان يركبه، فلما قتلت الراحلة وقف! هكذا الغالي، يظل يغلو حتى يخرج من الهدي الصالح، وهو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.