جاء في قصة إبراهيم عليها السلام في سورة الأنعام دليلٌ حي على ذلك: قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:٧٥] * {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ}[الأنعام:٧٦] وأنا أريد من إخواني المسلمين أن يتأسوا بقضية إبراهيم عليه السلام، وأنه مشغول في قضية معينة، والمشغول لا ينام، إنه يبحث عن مثال لإلهه الذي يعبده، مستيقظ طوال الليل لا يستطيع أن ينام؛ لأن هذه القضية شغلته:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} انظر إلى التعبير هذا كأن ليس في الكون غيره، ولم يلف الظلام أحداً في الكون غيره، هو المستيقظ، وكلمة (جنّ) أي: وصل إلى أعمق الليل، (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:٧٦] كلمة (جَنّ) تبين لك الصورة، جنّ: يعني كبد الليل، الليل مظلم مائة بالمائة فتخيل كوكباً مضيئاً في ظلامٍ دامس، يلتفت يمنةً ويسرة لا يرى في الدنيا إلا هذا الكوكب، فأجمل شيء في الدنيا هو هذا الكوكب؛ لذلك قال: هذا ربي، ربي جميل ربي كامل ربي لا يعتريه نقص، فأجمل شيء في هذه الدنيا هو هذه النقطة المضيئة فيكون هو إله!! يناسب أن يكون إلهاً:{رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي}[الأنعام:٧٦] لماذا؟ لأنه أجمل شيء في الكون.
من عبودية القهر على كل الناس أنهم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ينسبون الجمال إلى الله، الكل إذا رأى شيئاً جميلاً قال: الله، الكل كافر، مسلم، يهودي، نصراني، مجوسي، مجرد أن يرى شيئاً وجميلاً يقول: الله، فينسبون الجمال إلى الله رغم أنوفهم.
{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}[الأنعام:٧٦] لماذا؟ لأن إلهي لا يغيب عني، مبتهجاً به دائماً، فكيف يغيب هذا؟ لا يصلح أن يكون مثلاً لإلهي الذي أعبده وأجده في نفسي، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} وكملة (بازعاً) تدل على شدة الوضوح، فهو أكبر من الكوكب صورةً في مرأى العين، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}[الأنعام:٧٧] * {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} هذا هو لماذا؟ لأنه مضيء أفضل من الكوكب والنجم وأيضاً أكبر منهما، يبحث عن صفات الكمال والجلال:{فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:٧٨] * {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:٧٩].
إذاً رائد إبراهيم عليه السلام كان الحب، والحب مركبٌ لا يضل راكبه، العبادة بالحب تقبل ولو بالقليل، ولله در الراجز الذي قال:(وإن من البيان لسحرا).
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول يمشي على مهل، ويصل الأول!! كيف هذا؟ عبادة المحب بخلاف عبادة الموظف، الموظف الذي يأتي حتى يوقِّع اسمه في الحاضرين أنه حضر فصلى العصر وصلى الظهر!! لا، يقف الرجلان القدم بالقدم، والكتف بالكتف، وما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! فمعنى لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله أن تعتقد المشاهدة ولا تتم لك هذه المشاهدة إلا بالحب الذي من ثمرته التعلق.
فمحبة النبي عليه الصلاة والسلام واجبة، والمحبة هي ليست محبة الطبع، إنما هي محبة الاتباع والتقدير والتعظيم وإلاّ فأنت قد تحب ولدك حب طبع أكثر.
المحبة المقصودة:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}[آل عمران:٣١] هي مَحبة الإتباع، وأن لا تُقَدِّم قول أحدٍ على قول النبي صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.