للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جحود المجرمين لواضح البراهين]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:٨٤ - ٨٦].

فهذا كلام واضح كالشمس، ركز فيه على كلمتين اثنتين: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، (أوفوا المكيال والميزان بالقسط) فعندما يأتي هؤلاء ويقولون: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:٩١] مع هذا الوضوح، فهذا يدل على شيئين لا ثالث لهما: إما فاهم ويتغابى، وإما أصم لا يسمع، ولا أقصد بالصمم عطب هذه الحاسة، إن قوماً سمعوا كلام الله عز وجل، فقالوا: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:٣١] لأنه لو سمعوا سماع انتفاع ما قالوا هذا الكلام، اليهود الذين سمعوا كلام الله عز وجل، فقالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:٩٣] أهؤلاء سمعوا؟ إن السماع الممدوح في القرآن هو سماع الانتفاع؛ إنما مجرد سماع هذه الجارحة، أن يسمع الكلام بأذنه؛ ما قصد القرآن ذلك، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} [النور:٥١] حسناً: لو سمع وعصى، فهل هذا سمع؟ لا، هو عند الله كالأصم طالما أنه لم ينتفع بهذا السمع.

ولذلك (لما نزلت خواتيم البقرة -كما رواه الإمام مسلم في صحيحه - {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤]-ضاق الصحابة وقالوا: يا رسول الله! جاءت التي لا نستطيع (إن تبدوا أو تخفوا)! قد يمر بصدر الإنسان من الكفر ما الله به عليم، وقد يخطر بباله نوع من الشر ويتمنى أن يفعله، لكن لا يفعله، أفنحن مؤاخذون بذلك؟! - فجاء الصحابة وبركوا على الركب -والبروك إشارة إلى الذل- وقالوا: لا نستطيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا.

فذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله عز وجل آية الرخصة التي بعدها {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:٢٨٦]).

فالسماع المحمود هو سماع الانتفاع، وليس مجرد سماع الجارحة، ولذلك فإن الصمم الوارد في القرآن إنما ورد لأناسٍ آذانهم سليمة؛ لكنهم عموا عن الحق فلا يسمعونه.

فهذا البيان الواضح: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ){فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف:٨٥]، إما أنهم يتغابون في الخطاب، ويزعمون أنهم لا يفهمون؛ للتخلص من النص، وإما أنهم صم لا ينتفعون: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:٩١].

واحد يقول: (ما نفقه كثيراً) هذا يدل على أنهم فقهوا قليلاً.

نقول: إن هذه الآية تدل على أنهم ما فقهوا شيئاً؛ لأن علماء الأصول يقولون: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فقوله: (كثيراً) هذه النكرة منفية قبل ذلك بـ (ما النافية)، (ما نفقه كثيراً) إذاً هذا يدل على أنهم لم يفقهوا لا قليلاً ولا كثيراً مع هذا الوضوح.