[الفرار من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة]
المرتبة الثالثة للفرار: (ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً) وهذا هو نهاية المطاف، (من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ثقة ورجاءً) إذ أنك فررت إلى الله عز وجل، وهذا الفرار إلى الله ترجمه الصحابة -أيضاً-: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠] تعلموها واستخدموها حتى في كلامهم.
روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمَّر عليهم رجلاً -وفي بعض الروايات: أن هذا الرجل كان فيه دعابة- فضايقوه، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى.
قال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا الحطب.
قال: أججوه ناراً؛ فأججوه ناراً.
قال: ادخلوا فيها.
فلا زال بعضهم يدفع بعضاً -قاموا لكي يرموا أنفسهم في النار- فقال قائلهم: إنما فررنا إلى الله ورسوله من النار! فلا زال يدفع بعضهم بعضاً حتى انطفأت النار وسكن غضب هذا الأمير، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف).
وفي الصحيحين أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما وقع الطاعون أيام عمر بن الخطاب أراد عمر ألا يدخل الأرض التي هو فيها، فقال له أبو عبيدة: (يا عمر! أفرار من قدر الله؟ قال: يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فهذا هو معنى: (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) (نفر من قدر الله إلى قدر الله).
وفي سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث عدي بن حاتم قال: كنت بالعقرب -العقرب هذا اسم مكان متاخم لأرض الروم- وذلك لأنه لما انتشر الإسلام وعم الجزيرة، هرب عدي بن حاتم من الإسلام، وخاف أن يسلم، وهذا كحال بعض الناس فهو يخاف أن يقتنع بما عندك فيتحاشاك.
وأورد هنا قصة رجل كان ابنه يحضر بعض الدروس، وكان هذا الابن يعد من الأوتاد، فصار يحضر معنا دروساً في شرح كتاب رياض الصالحين في منطقة بجانبنا، وبدأ يسمع كلام الوحي، وبدأ يحس بسعادة وعلم لأول مرة يتعلمه، ثم صار يذهب إلى أبيه يجادله في ما كان يعتقد من قبل، فجاء الرجل إلى المسجد وأحدث بعض الفوضى، فلما كلمناه قلنا له: يا فلان! نحن على استعداد أن نجلس معك، فإذا كان الحق عليك تركت ابنك، وإذا كان لك أخذته منا؛ فأبى علينا، فأخبرنا الشاب فيما بعد أن أباه استشار أناساً قبل أن يأتينا فقالوا له: لا تجلس مع هؤلاء فإنهم سيلبسون عليك من حيث لا تشعر ونحو ذلك.
فالرجل لا يجلس معك خشية من أن يقتنع، كما فعل عدي بن حاتم، فلما هرب إلى مكان اسمه العقرب والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل خيله في غزوة، فأخذوا من ضمن السبايا عمة عدي بن حاتم، فأرسلوا إليه في العقرب وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سبى عمتك.
قال: فقلت في نفسي: فلآتينه، فإن عرض علي أمراً والله لا يخدعني، إن وجدت كلامه حسناً قبلته وإلا لم أقبل.
يعني: هو منَّى نفسه وجاء من العقرب.
وقبل أن يجيء اعترضت المرأة العجوز رسول الله، وقالت: (يا رسول الله! والله ما بي من خدمة -يعني: أنها من السبي وستقع في نصيب واحد من الصحابة وستبقى أمة، وهي عجوز لا تقوى على الخدمة- منَّ عليَّ منَّ الله عليك -يعني قل: أنت حرة لوجه الله- قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم.
قال: الذي فر من الله ورسوله؟ فجاء عدي بن حاتم فقال: يا عدي بن حاتم! ما أفرك أن يقال: لا إله إلا الله، وهل من إله إلا الله؟ ما أفرك أن يقال: الله أكبر، وهل شيء أكبر من الله؟ قال: فأسلمت، فاستبشر وسر، واستنار وجهه، وقال: يا عدي بن حاتم! إن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون) فانظر إلى قوله: (ما أفرك) ثم إلى قوله: (الذي فر من الله ورسوله).
فالصحابة كانوا يعرفون أنهم إنما يفرون من الله إليه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:٤٩ - ٥٠] فمن هذا نفر نفر من الله عز وجل ومن عذابه، كما قال ابن عباس: (نفر من معصيته إلى طاعته، ومن سخطه إلى رضاه) وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فالمهاجر من السيئة إلى الحسنة فار إلى الله عز وجل.
إذاً المنزلة الأخيرة من منازل الفرار بالنسبة لعوام الخلق هي: الفرار من الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً.