[موالاة المؤمنين]
عائشة رضي الله عنها لما أسيد بن حضير حصل منه الذي حصل في الإفك، والنبي عليه الصلاة والسلام على المنبر بعدما أشاع عبد الله بن أبي ابن سلول أن عائشة رضي الله عنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل علي بن أبي طالب وسأل أسامة بن زيد، وتأكد من براءة أهله وكان متأكداً، فعندما صعد النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر وجمع الناس، وقال (أيها الناس! من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما أعلم عن أهلي إلا خيراً؟ فقام سعد بن معاذ -ذاك السيد الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات- قال: (يا رسول الله! إن كان من الأوس أمرتني فضربت عنقه)، لماذا؟ لأنه زعيم الأوس، فهو له كلمة عليهم، فقالها بلا تحفظ، (إن كان من الأوس أمرتني فضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج) لم يقل: ضربت عنقه أيضاً، لأن الأوس والخزرج كان بينهم مشاكل في الجاهلية وستدخل في الإسلام مرة ثانية.
فحتى لا تقع مشاكل تحفظ سعد رضي الله عنه في الكلام عن الخزرج وقال: (وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك) -انظر: الجمال في التحفظ! كان يمكن وهو منفعل أن يقول له: إن كان من الخزرج أضعه تحت رجلاي مثلاً- ومع هذا التحفظ قام سعد بن معاذ، وهو زعيم الخزرج، وقال له: (والله لا تستطيع، ولا تقدر) أي: أنا الذي يقوم بذلك إن كان من الخزرج.
كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على المنبر، وهم يتراشقون بسهام الملام، فقام أسيد بن حضير، فقال لـ سعد بن عبادة: والله إنك لمنافق تجادل عن المنافقين.
حتى ثار الحيان الأوس والخزرج، وهمَّا أن يقتتلا في المسجد، والنبي عليه الصلاة والسلام يخفضهم بيديه -يعني: يشير إليهم بالسكوت- فلا زال يخفضهم حتى سكتوا.
عائشة رضي الله عنها قالت: (فقام سعد بن عبادة -وكان قبل رجلاً صالحاً- فاحتملته الحمية)، لم يمنعها غضبها أن تشهد له بالصلاح؛ لأنه ولي لله عز وجل، وكان محبباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومن سادة الرجال، ومن سادة المسلمين.
إذاً الغضب الشخصي لا يزيل مناقب أخيك، تظل المنقبة موجودة فيه كما هي، هذه هي قاعدة الولاء: أن الحب في الله عز وجل لا يزيد بالود ولا ينقص بالجفاء لماذا؟ لأن الذي واليته من أجله لا زال موجوداً.
وهذا كان خلق الصحابة الأوائل، فلم يكونوا يحبون الشخص لصورته، وإنما لما فيه من الإيمان بالله عز وجل، ويكرهونه لما فيه من البعد عن الله تبارك وتعالى.
وهناك أشد من ذلك، وهو ما قالته زينب بنت جحش رضي الله عنها عن عائشة عندما سئلت في حديث الإفك، رغم أنه من عادة الضرائر أن كل واحدة تذم الأخرى، إلا المؤمنة بالله عز وجل، بل حتى المؤمنة قد تضعف؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، وقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني أريد أن أتشبع أمام ضرتي بما لم يعطني زوجي) يعني: مثلاً تتكلم تقول: بالأمس جلس يضحك معي، ويقول لي: أنا لا أستطيع أن أستغني عنك.
فهذه تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا أريد أن أتشبع أمام ضرتي بما لم يعطني زوجي.
فقال لها: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، انظر إلى هذا الكلام الجميل! إنسان يلبس ثوبي زور، وأنت تعرف الثياب التي تباع في الأسواق الآن، والذين يلبسون ثياب الزور هذه لا يحصون عدداً، لا يحصيهم إلا الله عز وجل، (كلابس ثوبي زور) ونهاها، برغم أن إنساناً ربما يقول: ألا يدخل هذا في الكذب المباح؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم أباح أن الإنسان يكذب لأجل المحبة القلبية، ولأجل أن يزيد الود ويتنامى؟! وهذه المرأة لما تقول هذا الكلام تريد أن يكون لها حظوة عند زوجها أقول لك: لا، بل الرسول صلى الله عليه وسلم لما أباح للرجل أن يقول ذلك لامرأته خاصة أو المرأة للرجل، أراد تحقيق المصلحة، ولكن هذا فيه مفسدة، لأنها ستلفت نظر المرأة الأخرى، فعلاقة الضرائر تكون علاقة فيها شيء من التوتر، إلا إذا عصمهن الله بالإيمان.
فـ عائشة اتهمت في عرضها وسئلت زينب عنها: ما رأيك يا زينب في عائشة؟ هل علمت عليها شراً؟ قالت: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، فوالله ما أعلم عنها إلا خيراً.
تقول عائشة رضي الله عنها: (فقالت حمنة -وحمنة أخت زينب، هي التي تكلمت في حادثة الإفك على عائشة - أما أختها زينب فعصمها الله بالورع).
ولما ماتت عائشة رضي الله عنها وسمعت أم سلمة العويل قالت: ما هذا العويل؟ قالوا: ماتت عائشة فقالت: (رحمها الله، إن كانت لأحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه)، شهادتك أساسها ما بالرجل من إيمان، ولاؤك لما له من القرب من الله عز وجل، ينبغي أن يكون هكذا، كذلك الصحابة كلهم كانوا هكذا، فلما تقلص هذا الميزان، وأصبح الناس يحب بعضهم بعضاً للصور وليس لاعتبار الإيمان؛ فظهرت المشاحنات والمشاكسات والخصومات.
أنا أعرف خصومات كثيرة وقعت بين كثير من الإخوة، خصومات من أتفه ما يكون، والله لو عرضت على ميزان الإنصاف لاتهم المنصف صاحبها بالحمق والتجني، كلها خصومات فارغة، وإنما هي حظوظ النفس، وهذا هو خلق المشركين.
ربنا سبحانه وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:٧٣]، وبعد ذلك {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:٧٣]، أهل الدنيا هذا مذهبهم، تكذب على الله وتكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، وتغير شهادتك، وتشهد الزور، وتخدمه في مصالحه يتخذك خليلاً، وهذا مذهب أهل الكفر: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} يعني: يكذب على الله عز وجل {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:٧٣] انتبه للمعلومة التي ستأتي! {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:٧٣ - ٧٥] هل لاحظت الفرق بين قوله) {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:٧٣]، وقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ} [الإسراء:٧٥] هذا يدل على ماذا؟ واو الحال من طبيعتها تهيئة المقام وتهيئة الكلام، وإعطاء مساحة للمعنى، إذا شطب وغير واستفاد هذه الخلة الموجودة في الدنيا والمصالح إلخ؛ فالعقوبة تأتي مباشرة، ليس هناك تهيئة، {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:٧٤]، {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:٥٥] مباشرة.