للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فرار بعض أهل البدع من تشبيه الله بخلقه حملهم على نفي الصفات بالكلية]

إن الدعاوى التي يطلقها أهل البدع إنما يتخذون منها متاريس يضعونها كعراقيل، والأدهى والأمر أنهم وضعوا متاريس ضخمة جداً في مقابل نصوص الوحي في العقيدة، وكلٌ منهم يطلب التنزيه، لكنهم يطلبون ما لا يدرك بالعقل، فالقمر وهو مخلوق، لو قلت لك: صف لي سطح القمر، وصف لي حجارة القمر، وصف لي جسمه، وصف لي هذه الأجرام التي تدور بسرعةٍ مذهلة، وهي تعد بالمليارات، فلن تستطيع؛ لأن العقل لا يستطيع أن يصف إلا ما وقع تحت الحواس، التي تعد البوابات للعقل، فما غاب عن أي حاسة من الحواس الخمس لا يستطيع العقل وصفه، والرسول عليه الصلاة والسلام أشار إلى ذلك، لما ذكر الجنة فقال: (فيها ما لا عينٌ رأت -فتستطيع أن تصفه- ولا أذنٌ سمعت)، إن أكثر حاستين يعمل بهما الإنسان ويستخدمهما العقل السمع والبصر، وبعد ذلك قال لك حتى لا تبحث كثيراً: (ولا خطر على قلب بشر)، انظر إلى نفسك حين تجلس للتأمل وتطلق العنان لخيالك فإنك لا تستطيع أن تصف ما في الجنة وهي مخلوقة، فهل تستطيع أن تصف الله؟!! فأهل البدع وقعوا في هذا الأمر فقالوا: نحن نطلب تنزيه الله عز وجل عن النقص، وإذا قرأت عليه قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠]، قال لك: لو كان لله يد لكانت مثل أيدينا، والله ليس كمثله أحد، إذاً ليس له يد، وأنا أنزه الله، فتقول له: ثبت أن الله له يد، فيقول: أنت مجسم، وأنت ضال؛ لأنك تثبت لله يداً، ومعنى أن له يداً أنك تشبه الله بخلقه، فأنا أولى بالحق منك؛ لأنني منزهٌ وأنت مجسم.

فإن قلنا له: إذا كان مطلبك إثبات التنزيه لله فما هو رأيك في الصحابة؟ ترى أنهم ماتوا وقد نزهوا الله، أو ضلوا عن التنزيه؟ فليس له عندها إلا أن يقول: إنهم نزهوا الله، فتقول: هلم ننظر إلى سيرتهم، وإلى فهمهم فما ثبت عنهم نعض عليه بالنواجذ، وما لم يثبت عنهم نرميه في البحر.

وأي طالب للحق لن يرد هذا الكلام، ولا يتصور أن الصحابة الذين نقلوا لنا الدين ماتوا على ضلال ولم يعرفوا الله، والمتصور أن هؤلاء الذين نقلوا لنا هذه الأدلة التي نحتج بها الآن هم أفهم لها منا، أو على الأقل فهمهم كفهمنا فلماذا، لا نطلب طريقة هؤلاء الصحابة؟!! وقد رد ابن قتيبة رحمه الله على هؤلاء برد جميل، يقول: أنتم نفيتم أن لله يداً، فما هي اليد عندكم؟ يقولون: اليد بمعنى النعمة، كما تقول: فلانٌ له عليَّ يدٌ وله عليَّ أيادٍ، فلان صاحب الأيادي البيضاء، ففلان له عليَّ يد أي: ليس بمعنى أنه يضع يده عليَّ، بل هي بمعنى: له عليَّ نعمة وجميل.

فـ ابن قتيبة رحمه الله رد عليهم بقوله: اليد التي هي بمعنى النعمة، تفرد في كلام العرب وتجمع، إلا أنها لا تثنى، فتقول: فلانٌ له عليَّ يد (بالمفرد) وله عليَّ أيادٍ (بالجمع)، ولا تقول فلانٌ له عليَّ يدان (بالمثنى).

وقد جاء في كتاب الله قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ} [المائدة:٦٤] فجاءت بالمثنى فدل على أن المقصود هنا اليد على الحقيقة، وليس المقصود بها النعمة، ولا المقصود بها القوة، كما في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠]، فهذا يكون بمعنى التأييد والقوة والعون وغيرها من هذه الأشياء.

فنقول: هل يضر ونحن نسلم أن الله عز وجل ليس كمثله شيء أن يكون له يدٌ ليس كمثلها شيء؟

الجواب

لا يضر، فلماذا لا تتبنى هذا القول، وفيه إثباتٌ للنص؟ إذا كان هناك قولان، قولٌ إذا تبنيته أهدرت النص وألغيته، وقولٌ إذا تبنيته أبقيت النص، فلا خلاف عند الكل أن القول الثاني أولى، لماذا؟ لأنك أبقيت النص وقلت قولاً لا يصادمه لاسيما وأنا معترفٌ أنا والخصم أن الله تبارك وتعالى له حياة، وأنا أيضاً لي حياة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥]، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:٣٠]، فهذه (حي) والأخرى: (الحي)، إذاً أنا حيٌ لأني أتكلم، وأحرك جوارحي، فهل تسلم أن لله حياة؟ نعم.

وتسلم أن لي حياة؟ نعم.

وهل حياتي كحياته؟ لا.

فلماذا لم تنف الحياة عنه بما أنك أثبتها لي، فعندها لن يستطيع الرد.

ولو قلنا أنك أثبت له حياة تليق بجلاله، وأثبت لي حياة تليق بي، فلماذا لا تقول: وله يدٌ تليق بجلاله كحياته، وأنت لك يدٌ تليق بك كحياتك؟ ولماذا لا تقول: له إصبع وله قدم وتثبت سائر ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له عز وجل في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]؟ فانظر ما أحلى هذا الكلام، مثل الماء لا يصادم فطرة ولا يتعب عقلاً، أما صاحب البدعة فإنه يدور بك في متاهات أقواله وفي النهاية ترى أنك ذاهب إلى سراب بقيعة، لكن الكلام الذي قلته الآن هو كلام الصحابة والتابعين، وهو الكلام الذي إذا سمعه أي إنسان فإنه لا يرده، فإننا نثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، فقد نفى عز وجل المثلية وأثبت الصفة، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] في النفي {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] في الإثبات، فيكون نفى المثلية وأثبت السمع والبصر، فماذا نفهم من هذا؟ أنه (سميع) وليس كمثله سمعٌ، (بصير) وليس كمثله بصر، وكذلك له يدٌ ليس كمثلها شيء، وهكذا.

لكن يأتي من يرد هذا الكلام فيقول: مَنْ مِن الصحابة قال بهذا القول؟ نقول له: هذا البخاري ومسلم رويا حديث أبي سعيد الخدري: (يوم يكشف الله عن ساقه)، يقول لك: هل روى هذا الحديث أحد غير أبي سعيد الخدري؟ وفيه نسبة الساق إلى الله هكذا بالضمير الصريح؟ لا.

أليس من الجائز أن يهم أبو سعيد؟ نعم جائز.

لكن التجويز العقلي لا ينبغي أن يعكر على الواقع الفعلي، فالذهن قد يتصور أشياء في الخارج لا وجود لها، مع إمكان حدوثها، أتسلم لي أن الله عز وجل قادرٌ على أن يخلق رجلاً بمائة ألف رأس، في كل رأس مائة ألف فم، في كل فم مائة ألف لسان، كل لسان يتكلم بمائة ألف لغة؟ فهل تنكر هذا؟ أما أن نقول: إن الله خلق واحداً من خلقه بهذه الصورة فهذا هو ما يخالف الواقع الفعلي.

فالتجويز العقلي شيء، والواقع الفعلي شيء آخر، أليس من الجائز أن يمشي رجلٌ على الماء، أليس من الجائز أن يسير رجلٌ في الهواء، لكن هل وقع أن رجلاً مشى في الهواء، لا.

مع أن القدرة صالحة، فقدرة الله عز وجل ليس لها آخر، ولكن ما وقع.

فأنت تقول: هل الصحابي معصوم من الخطأ؟ أقول لك: لا.

لكن أنا أقول لك: هو ليس معصوماً نعم، لكن هل أخطأ؟ فأثبت أنه أخطأ، فالتجويز العقلي ليس لنا اعتراض عليه، لكن لا ينبغي أن تهدر الدليل بالتجويز العقلي، أئمتك الذين تأخذ الهدى عنهم، هل يمكن أن يخطئوا؟ نعم يمكن ذلك.

فلماذا أخذت عنهم الدين، وأخذت عنهم الكلام مع إمكان أن يخطئوا؟ فلذلك نقول: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه روى الحديث، وأنت تسأل: هل أبو سعيد معصوم؟ أقول لك: لا.

من الجائز أن يخطئ أبو سعيد الخدري لكن أقول لك بدوري: أثبت أنه أخطأ بإثبات واقعي.

وذلك بأن تأتي بصحابي آخر روى ضد ما روى، فتقول: أنا استدل برواية عمر بن الخطاب على خطأ أبي سعيد الخدري، حينئذٍ أنا أول القائلين بهذا ولا أنازعك، لكن كلامٌ ليس عليه دليلٌ أن صاحبه أخطأ، لماذا ترده؟ يقول: لأن الخبر الواحد لا تثبت به عقيدة، والعقيدة لا تثبت إلا بالتواتر.

فنقول: إن معاذ بن جبل أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اليمن لوحده، وقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، فهل هذه عقيدة أو لا؟ فلو أن أهل اليمن قالوا له: يا معاذ! لن نؤمن لك، فماذا يكون الحكم الشرعي في حقهم؟ كفرة أم لا؟ بإجماع العلماء هم كفرة، فهل نكفرهم بواحد؟ إذا ثبت عليهم التكفير بخبر الواحد دل على أن خبر الواحد حجة ملزمة قطعية؛ لأن التكفير لا يكون إلا بالقطعي، كما أن إثبات الإيمان لا يكون إلا بالقطعي، فالتفسير لا يكون إلا بالقطعي.

وبما أنهم كفروا بخبر الواحد، فدل ذلك على أن خبر الواحد قطعي.

فلا يتمكن أهل البدع من رد هذه الأدلة.

وعلماء المسلمين مثل ابن القيم وغيره أفاضوا في مثل هذه المسألة في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة، وكان حين يناقش شبهاتهم يقول: كسر الصنم الأول، كناية عن أن الجهمية لهم أصنام، وهي عبارة عن المتاريس والشبهات التي يضعونها أمامنا، فجاء ابن القيم وكسر الصنم الأول من ثمانين وجهاً، ١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، إلى ٨٠، حتى إذا ما أبطلوا وجهاً رد عليهم بالثاني، ثم الثالث والرابع، والخامس، حتى يأتي على بنيانهم من القواعد، وعندما تقرأ الصواعق المرسلة تعجب كثيراً من قدرة علماء المسلمين على نحت الأدلة من الصخر، وكيف اهتدوا إلى مثل هذه الاستدلالات التي هي من وراء وراء الكلمات.

ومن الأصنام التي يحتج بها المبتدعة (المجاز).