للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوة القلب تعين على الصبر حال الاستضعاف]

إن العبد يوزن عند الله بقلبه لا بجسمه، وقد صدق ابن القيم رحمه الله لما قال على حديث: (يأتي العبد السمين فيوضع في الميزان فلا يزن جناح بعوضة).

قال: فقيمة العبد في قلبه؛ لذلك كان نصيب القلب من البدن هو الملك، فالقلب ملك البدن، فهو مستقر الإخلاص والتوحيد للملك، والعبد الذي وهب قلبه لغير الله لا يعبأ الله به، ولا قيمة له عند الله عز وجل.

وقد ذكر الله عز وجل القلب كثيراً، مثل الصدع والران والختم والغلف، ولما ذكر الوحي وما يؤثر به في القلب ذكر الحيلولة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:٢٤]، ولذلك فلا تأمن مكر الله عز وجل.

استضعافك المحمود أساسه قلب سليم، ولذلك جعل الاستضعاف من نصيب المؤمنين، كم من رجال كانوا إذا سمعوا بالسجن ارتعدوا خوفاً، لكن لما دخلوا وخرجوا عظمت قوة قلوبهم، فلم يعودوا يرهبون شيئاً، ضع الإنسان في وسط العاصفة واتركه، بخلاف الجوارح فإنه لا يستقيم حالها مع البلاء والمحن، فإن البلاء والمحن تضعف الجارحة لكنها تقوي القلب، وتدبروا قصص الأنبياء والصالحين وانظروا إلى قوة قلوبهم، فإن العضو يستقي قوته من القلب، ومن الشواهد على ذلك: ما حدث لـ جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، فقد قطعت يده اليمنى فحمل الراية باليسرى فقطعت، فحماها بعضده.

هذه هي قوة القلب وليست قوة العضو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)، فإذا اشتكت هذه اليد لا تستريح تلك، ولا تستريح الرجل ولا يستريح الدماغ؛ لأن هذه الأعضاء كلها تتداعى في المحن، إلا القلب فإنه ملك لا يكاد يشعر بالبلاء.

وهنا قصة عجيبة، ولولا أن سندها صحيح لما صدقها أحد، ذكرها الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات في ترجمة أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي رحمه الله، وقد كان أحد التابعين الفضلاء، روى عن أنس بن مالك وغيره، حكى هذه القصة رجل كان يمشي بين الجبال، قال: (فإذا أنا برجل قد قطعت يداه ورجلاه، وذهب بصره، وثقل سمعه، فلما ذهبت إليه واقتربت منه سمعته يقول: الحمد الله الذي فضلني على كثير مِمَن خلق تفضيلاً! قال: فقلت في نفسي: والله لآتين هذا الرجل، وأي نعيم هو فيه؟! لقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وثقل سمعه.

قال: فذهبت وسلمت عليه، وقلت: يا عبد الله! سمعتك تقول كذا وكذا، فأي نعمة أنت فيها وقد ذهبت يداك ورجلاك وبصرك وثقل سمعك؟! قال: يا عبد الله! والله لو أرسل الله عليَّ النار فأحرقتني، والبحر فأغرقني، ما ازددت إلا شكراً له على هذا اللسان الذاكر، ثم قال: يا عبد الله! إنك إذ وافيتني فلي عندك حاجة.

قلت: ما هي؟ قال: إن لي ولداً كان يطعمني ويسقيني ويحضر لي الوضوء، وقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فهل لك أن تبحث لي عنه؟ قال: فقلت في نفسي: والله لا أسعى في حاجة عبد هو أفضل من هذا العبد.

قال: فمضيت أبحث عن ولده، فما مضيت بعيداً حتى وجدت عظم الشاب بين الرمال، وإذا سبع قد افترسه، فركبني الهم وقلت: كيف أرجع إلى الرجل وماذا أقول له؟ وجعلت أتذكر أخبار المبتلين، فحضرتني قصة أيوب عليه السلام.

فذهبت إليه وسلمت عليه، فقال: يا عبد الله! وجدت ولدي؟ قال: فقلت له: يا عبد الله! أتذكر أيوب؟ قال: نعم.

قلت: ماذا فعل الله به؟ قال: ابتلاه في نفسه وفي ماله.

قلت: كيف وجده؟ قال: وجده صابراً.

قال: يا عبد الله! قل ماذا تريد.

فقلت له: احتسب ولدك، فإني قد وجدت السبع افترسه.

قال: فشهق شهقة، وقال: الحمد الله الذي لم يخلق ذرية مني إلى النار ومات.

قال: فركبني الغم، ماذا أفعل وأنا وحدي؟ فإذا أنا بقطاع للطرق، فلما رأوني أغاروا عليَّ -بعدما سجى هذه الجثة وجلس يبكي، أغاروا عليه ليسرقوا الذي معه- فلما رأوه كذلك قالوا: ما يبكيك؟ فقال: مات صاحب لي ولا أملك له شيئاً.

فقالوا: اكشف عن وجهه، فلما كشفوا عن وجهه، فإذا هو أبو قلابة؛ فبكى اللصوص وقالوا: العبد الصالح! وصلوا عليه ودفنوه).

هذه هي قوة القلب: رجل فقد المنفعة، لا أطراف له، ولكنه لا يحس بعظمة المحنة التي ركبته بسبب قوة قلبه! إذا من الله عليك بقوة القلب فلا تأسى على ما فاتك من الجارحة، لذلك أعظم الناس أجراً عند الله عز وجل هم الصابرون، فإن الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠]، لا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان.