[كفران النعمة ورد البراهين من أسباب دخول النار]
ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه السورة الفاجر والمؤمن، وذكر جزاء كل واحدٍ منهما، وعللّ ربنا تبارك وتعالى هذا الجزاء.
وقد بين الله تعالى سبب دخول العبد النار، وأنه بسبب إتيانه لست جرائم؛ فأول جريمة: أنه كفَّار، والعلماء قالوا: (الكفَّار) هنا المقصود به من يكفر النعمة، وهذا من أوسع الأبواب التي تؤدي إلى الكفر بالله، فإبليس اللعين لما عصى رب العالمين تبارك وتعالى، حين أمره بالسجود لآدم فأبى، وطالب الإمهال، فوعده الله عز وجل بذلك، فقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:١٧] لا يشكر أبداً.
وأنا أقول: إن أكثر الناس مبتلى بهذا الأمر، فمن الناس من ابتلي بزوجةٍ لا ترضى، فهي لا تعرف كيف يأتي الرجل لها بالمال، ولا يهمها ذلك، ولو بذل في سبيل ذلك فوق طاقته فإن هذه المرأة تترك للرجل مرارة في الحلق لا يشعر بها إلا المبتلى، وهذا من كُفر النعمة، وقد يؤدي هذا الفعل إلى الكفر بالله تبارك وتعالى؛ لأن من الوفاء الشكر، وكثير من الناس -وأنا أعرف بعضهم- لا يشكرون الله عز وجل على عطائه، ولذلك لا يأبه بالنعمة ولا يعظمها، فمثلاً حين يكسب التاجر عشرة بالمائة زيادة على رأس المال، فيحلف بالله العظيم أنه خسران، لأنه كان مقدراً في نفسه أن يكسب عشرين بالمائة، فلما كسب عشرة بالمائة اعتبر نفسه أنه قد خسر عشرة بالمائة، ويحلف بالله العظيم أنه خسران، مثل هذا لا يرعى لله نعمة، كثير الشكوى والاعتراض على الله تبارك وتعالى، وهذه الصفة يتبعها صفات أخرى، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:٢٤] فهذا الكفر يورث العناد للرسل، وتجد أكثر هذه الطبقة -طبقة المعاندين- من أهل الدنيا الذين أعطاهم الله تبارك وتعالى المال، فمن المعلوم أن أعداء الرسل هم المفرطون، وأعداء الدعاة هم المفرطون أيضاً، يظن الواحد منهم أنه يفعل ما يريد، وبعد ذلك يطهر ماله بعمرة أو بحج أو يعمل موائد الرحمن في رمضان، ففي القاهرة يعملون موائد الرحمن.
واحدة من أشهر الراقصات كانت تقيم موائد رمضانية في بيتها، فتأتي باللحوم والأكل من أفخر المطاعم، وتنصب موائد الرحمن، ثم تذهب لتؤدي (عمرة رمضان)، وبعد ذلك ترجع إلى العمل وهكذا، وتراها تقول لك: نحن لا نرقص في رمضان احتراماً للشهر الكريم! ولكن أين احترام رب العالمين {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:١٣].
ومن الممثلين من يقول لك: أنا رجل ملتزم، ولا أمثل في رمضان، وهذا إقرار منه على نفسه أن الذي يعمله في غير رمضان غير جائز، وأنه لا يحل له.
فهؤلاء يظنون أنه بمجرد أن يفعل ذلك فإنه يعود طاهراً من الذنوب، وإذا به يعود للمعصية مرة أخرى، ونحن لا نتألا على رب العالمين، ولا نقول: إن الله لن يغفر لها، ولا نقول: إن الله يقبل سعيها؛ لأنه لا يحل لأحد أبداً أن يتجرأ على إطلاق هذه الأحكام حتى لو كان المقصود فاجراً، فالخواتيم لا نعرفها، لكن نقول: إن من وقع في المعصية ولم يقلع عنها فلا يظن أنه إذا تصدق أو فعل شيئاً من البر أنه قريب من ربه، كان الصحابة المتقون الأخيار رضي الله عنهم، كلما ازداد إيمان أحدهم كلما اشتدت خشيته لله تبارك وتعالى، وأنت كلما أحببت خفت، فالمحب قد يذل لكنه لا يغتر، فهؤلاء أعداء الرسل وأعداء الدعاة إلى الله عز وجل؛ لأنهم يتصورون أن الدعاة أو الرسل أتوا ليأخذوا الدنيا منهم؛ فلذلك يعادونهم.
ونحن نقول لكل داعية إلى الله: إذا دعوت رجلاً غنياً فكن حذراً في دعوتك، فالإنسان الغني له طريقته في الدعوة، بخلاف الإنسان الفقير، والحكمة أن تنزل الكلمة في موضعها، فحين تذهب إلى إنسان غني مترف، محاط بكل متع الدنيا، وتقول له: اخرج من مالك واتركه، ولأن هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، فهذا لا يستطيع أن يتبعك، نعم بعض الناس قد يتبعك، لكن أغلب الناس لا يستطيعون ذلك، يستوحشون هذه الوصية، كما قال قوم قارون له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] أي: نحن ما جئنا لنأخذ مالك، ولا لنقول لك: لا تتمتع، فإن كنت تريد أن تأكل السمك، أو تريد أن تأكل اللحم أو تذهب إلى استراليا وترجع، نحن لا نحرج عليك، لكن نقول: احمد الله الذي سخر لك هذا، ولولا الله ما كنت لتستطيع أن تربح مثل هذا، لا بذكائك ولا بعبقريتك، لولا أن الله سخر لك هذا، فالله تبارك وتعالى يقول: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل:٧٩] مثلاً حرب الخليج كان هناك طائرات عملاقة، وهي حاملات الدبابات، وهذه الطائرات تطير بأكثر من مائة دبابة، فسبحان ممسك هذا (الأسطول) في جو السماوات.
فإذا كنت في الطائرة فتذكر أن تكبر ربك سبحانه وتعالى وتحمده، وحين تهبط أن تحمد الله أنك هبطت، وتذكر حين تدخل مطعماً أن تسمي الله تبارك وتعالى؛ لأنه هو الذي رزقك بمثل هذا وهكذا دواليك.
اسكن في أفخم القصور واعمر جنباته بذكر الله تبارك وتعالى، إذا كنت قادراً على ذلك؛ وأقل الناس هو الذي يقدر على هذا، وانتبه إلى قول قوم قارون لما نصحوه وهم يعلمون محبته للمال، لم يقولوا له: اخرج من مالك وتصدق بمالك كله، فالمرء لا يقوى على ذلك، لكن قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:٧٧] واعمل لنفسك، وفي نفس الوقت: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧] أي: لم يكن معك مال ولم تكن لك نباهة ولا ذكر، وربنا سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:٧٦] أي: كان واحداً من قوم موسى لا نباهة له ولا ذكر له ولا شأن له، فلما آتاه الله عز وجل المال بغى عليهم، هكذا تكون بداية الكفر والبطر على النعم، وكثير من الناس هكذا، إن الإنسان الغني الذي ورث الغنى لا يستوي مع الذي طرأ عليه الغنى، فالذي يرث الغنى كابراً عن كابر لما ولد وجد أباه ثرياً أخذ نفس الصفة من أبيه، بخلاف الذي طرأ عليه الغنى، فإنه يلقن ابنه: يا بني كن ذئباً حتى لا تأكلك الذئاب؛ لأن الحياة عنده عبارة عن معركة، تراه يعمل عمل الذئب، فيغمض عيناً ويفتح الأخرى، فهو يقضان هاجع كما يقول الشاعر، فهو يعلم ابنه ليكون مثله، فالأب في العادة يكون مثالاً يحتذيه الابن، حتى لو كانت مماثلة الابن لأبيه في خلق ذميم، كما يروى في بعض الكتب قصة ذلك الرجل البخيل الذي أتى بعظمة فأراد أن يختبر بنيه أيهم يحسن استغلالها، وأعطاها في النهاية لمن أحسن وصفه لكيفية الاستفادة منها، وأثنى عليه.
فنقول: إن من تعلق بالدنيا مهما ذكرته أو قلت له: التمس في ما آتاك الله الدار الآخرة فلن ينفع، لكن ينبغي عليك أن تسلك معه السبل الصحيحة، أولاً: أن تذكره بقول تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧].
وثانياً: أن ترقق قلبه بأن تذكره بحاله، وأن الله أحسن إليه، فمن هذا الباب عليه أن يعامل الناس بنفس الوفاء، أحسن الله إليه فيحسن إلى الناس، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:٧٧] فإن لم ينفع ذلك انتقل إلى التهديد، فتأمل درجات الدعوة: أولاً تقول له: أد حق الله وتمتع، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧] ثم بعد ذلك تهدده: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:٧٧] فإن الإنسان قد يرعوي إذا هدد.
ونضرب هنا مثلاً الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل ثلاثة: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله عز وجل أن يبتليهم، فأرسل إليهم ملكاً في صورة رجل، فذهب إلى الأقرع، فقال: ماذا تشتهي؟ قال: أشتهي شعراً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، قال له: أي المال تحب أن تُرزق؟ قال: البقر.
فأعطاه بقرة حاملة، قال: بارك الله لك فيها.
ثم ذهب إلى الأبرص فقال له مثل الأول.
فقال: أن يعطيني الله جلداً حسناً وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، قال: أي المال تحب؟ قال: الغنم.
فأعطاه غنمةً وليدها، وقال: بارك الله لك فيها، ثم ذهب إلى الأعمى، وقال: ما تشتهي؟ قال: أن يرد الله علي بصري وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، وقال فأي المال تحب؟ قال: الإبل، فأعطاه ناقة حامل، فلما دعا لهم الملك دعا لهم فبارك الله عز وجل للأول في الأغنام والثاني في الأبقار والثالث في الإبل، حتى صار لكل واحد منهم وادياً من الإبل ومن البقر ومن الغنم، ثم بعد حول جاء الملك للأبرص في صورة رجل أبرص وقال له: عابر سبيل انقطعت بي السبل، ولا حيلة لي إلا بالله ثم بك، فهل تعطيني غنمة أتبلغ بها في سفري؟ فقال له: الحقوق كثيرة) أي: أنا رجل مديون، ولو أعطيتك وأعطيت هذا وهذا فسينتهي ما معي (فقال له الملك: كأني أعرفك ألم تكن أبرص فأعطاك الله جلداً حسناً ولوناً حسناً؟ ألم تكن فقيراً فأغناك الله؟ قال: إني ورثت هذا المال كابراً عن كابر، أباً عن جد، ولم أذق الفقر أبداً في حياتي) فانظر إلى كفران النعمة كيف يؤدي إلى الكذب! فكل العناد مبني على الكذب، والعناد: أن تدفع بصدرك في نحر الحجة، هذا هو العناد، وحين تقرأ سير المكذبين في القرآن ترى كيف كذبوا قومهم، فإن العناد هذا كله مبني على قاعدة الكذب، وأول يجحد المرء الوفاء يكذب.
(قال له: إني ورثت هذا المال كابراً عن كابر، قال: إن كنت كاذباً صيرك الله كما كنت، فرجع كما كان) فالله عز وجل لا يتعاظمه أحد، وإن ذلك على الله يسير، فاحذر إذا آتاك الله عز وجل المال من هذا الجحود، أو أن يردك الله عز وجل