وجوب التعصب للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً بلا قيد ولا شرط
كل هذا كان داعيته الغلو، لذلك تنبه العلماء رضي الله عنهم إلى مثل هذا الغلو، فكفوا أتباعهم عنه، وبينوا أن الوحيد الذي يجب له التعصب مطلقاً بلا قيد ولا شرط هو النبي صلى الله عليه وسلم، فتواترت هذه الكلمة على ألسنتهم جميعاً: (إذا صح الحديث فهو مذهبي).
وتراشق المقلدون من أصحاب المذاهب في البلاد بسهام الملام، وبدأت العصبية المذهبية تعمل عملها، فبدءوا يجعلون مدارس في كل بلد خاصة بتدريس كل مذهب، فالمدرسة النظامية التي بناها نظام الملك -مثلاً- في بغداد كانت لتدريس المذهب الشافعي فروعاً، والأشعري عقيدة، وصارت هناك المدارس التي تدرس المذهب الحنبلي والمذهب الشافعي والمذهب الحنفي والمذهب المالكي.
وأيضاً صارت العصبية في الوظائف، مثلاً: إذا استطاع عالم من العلماء أن يقنع رأس الدولة أن يكون حنفياً؛ فقضاة الدولة يكونون من الأحناف، وفقهاء الدولة من الأحناف، وأصحاب الوظائف من الأحناف، ويبدأ هذا الرجل الإمام الكبير الذي هو الرأس يبني المدارس لنشر المذهب الذي يعتقده صواباً، فإذا كانت الوظائف لا تقبل إلا من حنفي، فأنا أحتاج أن أدخل المدرسة الحنفية حتى أصير قاضياً؛ فصارت دراسة المذهب سلماً للوظيفة، وصار الرجل الكبير حتى وإن بلغ درجة الاجتهاد في المذهب لا يستطيع أن يخالف أقوال المذهب وإلا عزلوه، مع أنه بلغ مرتبة الاجتهاد، مثل تقي الدين السبكي وتقي الدين السبكي قرين ابن تيمية وصاحب الحرب الضروس عليه، وحامل لوائها وكذا ابن الزملكاني وابن تقي الدين السبكي تاج الدين عبد الوهاب -صاحب طبقات الشافعية- كان أشد من أبيه ألف مرة في التعصب، كان متعصباً للمذهب الأشعري بطريقة شديدة حتى أن الأشعري نفسه قد لا يتعصب لمذهبه مثل تعصب عبد الوهاب السبكي له، وقد ذبح شيخه الذهبي بسكين باردة، والإمام الذهبي صاحب كتاب: ميزان الإعتدال، وسير أعلام النبلاء، وابن السبكي عالة على شيخه الذهبي في التراجم؛ لأن الذهبي إمام التراجم كلها، فكل كتبه في التراجم، وقد تميز بذلك فقد كان يأخذ الترجمة بنصها، ومع ذلك كان شديد العقوق لشيخه الذهبي، ولم يتق الله فيه، ولم يرع أستاذيته، وكل هذا بسبب التعصب البغيض للمذهب الأشعري، ولأن الذهبي كان شافعياً في الفروع حنبلياً في العقيدة، ونحن نعرف أن أئمة العقيدة السلفية على مدار العصور هم الحنابلة، فهم الطائفة الوحيدة التي نجت من الابتداع، وقلما تجد فيها مبتدعاً في العقيدة، بخلاف الطوائف الأخرى.
فتجد ابن الجوزي -مثلاً- مبتدع في بعض مسائل العقيدة، وكذا ابن عقيل ليس على العقيدة السلفية، ولكن علماء الحنابلة كلهم هم حاملو لواء العقيدة السلفية.
أي: المذاهب الثلاثة أكثر علمائها يدورون ما بين الأشعرية، والماتريدية، والاعتزال، فحصل بينهم حروب شديدة بسبب التعصب للمذهب.
وتقي الدين السبكي كان رأس الشافعية في زمانه، وبلغ مرتبة الاجتهاد بحيث يسوغ له أن يخالف قول الشافعي بالدليل، فجرت محاورة بين ولي الدين العراقي ابن الحافظ زين الدين العراقي المحدث المشهور صاحب الألفية، وبين سراج الدين البلقيني، فقال ولي الدين للبلقيني: لم تمذهب تقي الدين بـ الشافعي وقد بلغ رتبة الاجتهاد؟ فسكت البلقيني.
فقال ولي الدين: أظن ذلك للأعطيات.
وقد كان هو قاضي القضاة، وإذا عُزل كان سيحرم عطاءه، قال: فتبسم البلقيني وكأنما أقره على ذلك.
فالعصبية من أجل المذاهب الفقهية في الفروع أدت إلى انشطار الأمة إلى طوائف وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون، ووصل الأمر أن هناك بعض الكتب الفقهية يبطلون صلاة الشافعي خلف الحنفي؛ لأن الحنفي -مثلاً- لا يوجب الوضوء من مس الذكر، ويفرضون الصورة الآتية: (حنفي مس ذكره، وتقدم للإمامة هل يصح لشافعي أن يصلي خلفه؟ الجواب لا لماذا؟ قال: لأن عند الشافعي مس الذكر ينقض الوضوء، فهذا الإمام بعدما مس ذكره في حكم غير المتوضئ، إذاً: صلى بغير وضوء، وعليه لا يجوز لشافعي أن يصلي خلف حنفي).
وأيضاً: لا يجوز لحنفي أن يصلي خلف شافعي؛ لأن الشافعية يجيزون الاستثناء في الإيمان، والإيمان عند الحنفية هو التصديق، والتصديق لا يتصور فيه النقص، يعني: -مثلاً- أنه لا يكون مصدقاً (١٠٠%)، فيقول: إما مصدق وإما مكذب، والإيمان تصديق، فإما كامل الإيمان وإما مسلوب الإيمان، والشافعية يجيزون أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، يقول: (إن شاء الله) استثناء في الإيمان فيكون شك، والشاك في إيمانه كافر، وعليه فلو أن رجلاً شافعياً كان إماماً ويشك في إيمانه فلا يجوز لحنفي أن يصلي خلفه.
وتفرع على ذلك
السؤال
هل يجوز لحنفي أن يتزوج شافعية؟ فأفتى مفتيهم بأنه لا يجوز! حتى أكرم الله عز وجل الأمة بمفتي الثقلين -كان اسمه هكذا لأنه كان يفتي حتى الجن- فقال: أنزلوها بمنزلة أهل الكتاب.
أي: كأنها يهودية أو نصرانية، ودعوا الحنفي يتزوجها.
فانظر لو أنهم جميعاً قضوا من معين واحد ولم يعظموا الرجال؛ ما اتسع الخرق إلى هذا الحد، فلماذا تتعصب لـ أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد؟ يتعصب لأنه يظن أن شيخه هو أفضل الشيوخ جميعاً وعلم ما جهلوه جميعاً أليس هذا غلو؟ هذا غلو إذا اعتقدت أن شيخك أفضل الشيوخ، لكن هناك من هو أفضل منه في بعض الجزئيات، أو أن الجزئيات التي لا تتناهى ويمكن أن يُتَعقب شيخك فيها؛ كان مدعاة لعدم الغلو، إذا قلت: أخطأ شيخك في هذا قبلت، لكن هم يعتقدون أن الشيخ هو مجمع الفضائل ولا يخطئ، فكان في ذلك إعراض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعن الحنيفية السمحة.
لدرجة أنه سئل رجل عالم سؤالاً: إذا أفتى أحد العلماء المعتبرين بفتوى، وكان حديث النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف الفتوى من نتبع؟ قال: اتبع فتوى العالم!! أهذا يقوله مسلم قرأ قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]؟! هل هناك رجل يقول مثل هذا الكلام؟! طبعاً يعتقد في نفسه أن العالم يجمع الأحاديث الواردة في الباب، فيمكن أن العالم هذا يكون وقف على حديث خصص الحديث الذي تحتج أنت به أو قيده، أو يمكن أن الحديث الذي تحتج أنت به في مقابل الفتوى منسوخ مثلاً، فالعالم قبل أن يقول يجوز أو لا يجوز يسمع الأدلة كلها ويجمع الأدلة بعضها على بعض، ويبين الخاص من العام، والمقيد من المطلق، ويفهم الناسخ من المنسوخ، ويفهم المجمل على ضوء المبيّن مثلاً، العالم هذا عمله فيمكن أن العالم قد جمع بين الأحاديث وعلم ناسخها ومنسوخها، ثم قال لك: لا يجوز، فأنت إذا أخذت بقول النبي صلى الله عليه وسلم ربما أخذت بحديث منسوخ أو بعام خُصص، أو بمطلقٍ قُيد، أو بمجملٍ بُيِّن، فيقول لك: الأحوط والأسدّ أن تتبع قول العالم.
ونحن نرد على هذا الكلام ونقول: ألا يجوز على العالم أن يخطئ؟ أم يجب أن يكون مصيباً؟ قد يخطئ، فإذا كان العالم بعد هذا الجهد يمكن له أن يخطئ، فلا شك أن اتباع الذي لا يخطئ أولى من اتباع الذي يجوز عليه الخطأ، فلو لم يكن عندي إلا قول النبي عليه الصلاة والسلام، وفي مقابله فتوى عالم يمكن له أن يخطئ، فلا شك أن اتباع المعصوم الذي لا يخطئ أولى من اتباع الذي يخطئ.
ثم إن فيه تعظيماً للنبي عليه الصلاة والسلام، فلو عودنا الناس على رد حديث النبي عليه الصلاة والسلام بقول كل عالم لضاعت السنة كلها؛ بل لضاع الدين كله، فأين الآيات التي فيها تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام وأنه لا يجوز لأحد أن يقدم قول أحد على قوله كائناً من كان؟! أين هذه الأدلة القطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! إذاً: في حالة عدم وجود من يرجح ويبين سبب مخالفة الفتوى للنص بسبب النسخ أو حمل المطلق على المقيد وغير ذلك؛ يجب وجوباً أن نتبع الحديث ولا نتبع قول العالم لأن هذا هو الأسدّ، وهذا هو الواجب عليك تبعاً للنصوص القطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.