[ثبات العبد عند السؤال في القبر على قدر تمسكه بالحق في الدنيا]
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أول عقبة كئود تعترض الرجل بعد موته وبعد دفنه هو السؤال، إذا أحب الله عز وجل عبداً ألهمه الإجابة: - من ربك؟ - ربي الله.
- ما دينك؟ - ديني الإسلام.
- ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ - هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بعض الناس قد يجيبُ صواباً ولكنه لا يعتقده، يعني تأتي معه المسألة هكذا، أحياناً يأتي للمرء سؤال فيجيب إجابةً سديدةً بغير أن يعرف أن هذه هي الإجابة السديدة، فالناس مؤمنٌ كامل الإيمان هذا يجيب، وكافرٌ لا يجيب، وبين بين، والإشكال في هذا الصنف الأخير، إذا سئل هذه الأسئلة الثلاثة وأجاب إجابةً صحيحة فهل تظنون أنه سلم له؟ ليت الأمر كان كذلك، لكن الأمر ليس كذلك، إن الملكان يشككانه في الجواب، وينتهرانه أشد الانتهار، وقد ورد في بعض الأحاديث: (أن ملكي الموت أصواتهما كالرعد القاصف، وعيونهما كالبرق الخاطف) وهذا عبد ضعيف أمام هذه القوة الهائلة، فينتهرانه ويصرخان فيه، ويعيدان الأسئلة مرةً أخرى، فاليقين الذي لم يتحقق بـ (لا إله إلا الله) في الدنيا لن يكون موجوداً في تلك اللحظة، فيقول العبد في نفسه: إذا كانت الإجابة صحيحة لم ينتهرني الملكان؟! أكيد أنني أجبت خطأً، فيبدل الجواب وهذه هي الفتنة العظيمة التي بكى الصحابة لها، حتى إن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما روت هذا الحديث قالت: فلم أسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نحيب الصحابة، لما قال لهم: (إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، أو قريباً من فتنة الدجال) لم تستطع أسماء أن تسمع بقية الكلام قالت: فقلت لرجلٍ بجانبي: ماذا قال؟ فقال: إنه يقول: (إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، أو قريباً من فتنة الدجال) أتعرف فتنة الدجال؟ إنها باختصار كما قال عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بين آدم إلى قيام الساعة لا توجد فتنة كفتنة الدجال).
رجل معه جنةٌ ونار، فجنته نارٌ، وناره جنة، يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتتبعه كيعاسيب النحل، ويأتي على الرجل فيقطعه إرباً إرباً، ثم يقول له: قم؛ فيتهلل ضاحكاً! أضف إلى ذلك أنه كلما اقتربنا من الساعة كلما غابت علوم النبوة، يظهر الجهل ويقل العلم، فتصور أناساً جهلة وأتتهم هذه الفتنة! أنا أعرف أناساً افتتنوا برجلٍ كان يستعين بالجن، فظنوا أن هذا الرجل على كل شيءٍ قدير، وسلموا له كل شيء، وهذا مذكور، وما جند له الجن إلا بعدما فتن وخرج من دينه، فتصور ظهور الدجال ومعه كل هذه الإمكانات، ثم لا يكون عند الناس من العلم والإيمان ما يعصمهم من هذه الفتنة، فيتبعه أكثر الناس ويظنونه إلهاً، لما يملك من هذه السنن الخارقة، فما يتعرض العبد له في قبره كمثل فتنة الدجال أو قريباً من فتنة الدجال، فالصحابة خافوا على أنفسهم حين سمعوا هذا الوصف لفتنة القبر، فحينئذٍ أنزل الله عز وجل قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧] (في الآخرة): أي في القبر، إذا انتهره الملكان وشددا عليه لا يغير جوابه، بل يعيد الجواب السديد مرةً أخرى، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:٢٧] عنها، لا يقولونها أبداً؛ لأنهم لم يعملوا بمقتضاها في الدنيا {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧].
ثم يخرج العبد في قبره يوم العرض وقد غضب الله عز وجل غضباً شديداً حتى خاف الأنبياء على أنفسهم، ورفضوا الشفاعة لأقوامهم، كل نبي يسأل الشفاعة، فيقول: نفسي نفسي، إن الله غضب اليوم غضباً ما غضبه قط، ولا يغضب بعده مثله قط، فجاءه كل إنسانٍ بعذره ووزره جاءه الذين قال بعضهم: أنا ربكم الأعلى كفرعون، وكل نفسٍ فيها داعية الربوبية، لو أمكن للإنسان أن يقول: أنا ربكم الأعلى؛ لقالها، لكن فرعون قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر، لو أمكن الإنسان أن يستعلي لاستعلى، لا يحجبه إلا الإيمان، وإلا فكل نفس فيها داعية الألوهية وداعية الربوبية كفرعون تماماً، فجاءه كل هؤلاء بعدما صبر الله عز وجل عليهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من الله) لو أن بعضنا تعرض لسماع جزءٍ يسيرٍ مما يسمعه الله القادر لما تحمل.
إنهم ليدعون أن له ولداً، وأنه لا يحيي الموتى، وأنه لا يرزقهم ويعافيهم، فالله عز وجل يكون غاضباً في ذلك اليوم حتى يقنط الرسل ويخافون من مواجهته، ولا يصبر على ذلك إلا من مكنه الله عز وجل وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، ويقف العبد خمسين ألف سنة على قدمه، ينظر إلى العباد يساق ببعضهم إلى النار ويساق ببعضهم إلى الجنة، والهمُّ يقتله: ترى من أي طريق يساق؟ فهو ينتظر دوره على مدى خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك يسحب إلى الجحيم.
كل هذا مقابل خمسة وعشرين سنة فقط يعيشها الإنسان في الدنيا؟! أهذه هي دراسة الجدوى أيها التجار؟! إن التاجر لو دخل السوق فخسر درهماً واحداً لكان عليه حزيناً! أهذه هي دراسة الجدوى؟! أهوال قادمة بخمسة وعشرين عاماً فقط يعيشها المرء، تمر كأنها أضغاث أحلام، فقد آن لنا أن نرجع إلى الله عز وجل {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:١٦]؟! نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يتوب علينا وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.