للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام على مسألة الأخذ بالأحوط]

هناك مسألة خطيرة، وهي مسألة: الأحوط الأحوط هذا يلتحق باليسر أو بالعسر؟ يلتحق بالعسر مثلاً: أتاك رجل وقال لك: أنا كهربائي وقد طلب مني صاحب مقهى أن أصلح له الكهرباء، وهذا المقهى تشرب فيه الشيشة ويلعبون فيه طاولة وكلها معاصٍ في معاصٍ؛ فهل يجوز لي أن أصلح لهم الكهرباء أم لا؟ هو لماذا سأل؛ لأن عمل الكهرباء حلال، واللعب هذا حرام، فحصل له شبهة، فجاء يسأل، فتقول له: الأحوط أنك لا تصلح لهم الكهرباء.

فتكون بهذا قد ضيعت عليه صفقة عمل بسبب الأحوط.

فالأحوط معناه: الأشد فالأشد.

مثال آخر: ما يحكون عن أبي حنيفة رحمه الله أنه جاء إليه رجل فأخبره أن شاه سرقت منه فذهب أبو حنيفة لرجل قصاب أو إلى -راعي غنم- يعرف أسنان الماشية فسأله: كم سنة تعيش الشاة؟ فقال له: أقصى مدة عشر سنين، فحرم أكل لحوم الشياة على نفسه عشر سنين، لماذا؟ قال: لأن السارق قد يكون باعها لجزار فلعلي أشتري من ذلك الجزار فأكون قد أكلت حراماً، لكن الأحوط لي أن أمتنع عن أكل لحم الشاة عشر سنين فلا شك أنه أخذ بالأحوط، فالأحوط هنا معناه الأشد المفتي عندما يستخدم كلمة الأحوط فإنه يضيق على الناس، ويضيع اليسر في دين الله، الذي تكفل الله لنا أن يكون يسيراً، فإذا كان المفتي ممن يأخذون بالأحوط، فإنما هو من الجهلة أصحاب البضاعة القليلة.

يقول سفيان الثوري رحمه لله: إنما الدين الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد.

يعني مثلاً: إنسان ليس عنده علم ولا ترجيح، فعندما تسأله يقول لك: يا أخي! الأحوط أنك تترك وتستريح؛ لأنه عاجز عن تحقيق المناط.

في قرن من القرون كانت الحرب على أشدها بين الشافعية والحنفية، فقد كانا أكثر المذاهب تناحراً؛ لأن أكثر سواد المسلمين إما أحناف وإما شافعية، والأحناف أكثر؛ لأن أكثر بلاد العجم أحناف، ثم الشافعية، ثم المالكية، ثم الحنابلة، فكانت الحنفية والشافعية في شجار دائم، فيحكى أن رجلاً شافعياً تصدر للإفتاء -وأنتم تعلمون أن المذهب الشافعي فيه مذهب قديم ومذهب جديد- فكان عندما يسأله أحد يقول: للشافعي فيه قولان -الذي يحكي هذه الحكاية شخص حنفي، وأنا لا أستبعد أن تكون مكذوبة أو موضوعة- فقال أحد الأذكياء له -وهذا الذكي لابد أن يكون حنفياً- فقال له: أفي الله شك؟ فقال ذلك الرجل: للشافعي فيه قولان المفتي عليه أن يفتي بالراجح، وله أن يتورع في نفسه إلى أقصى حد، فإذا أراد أن يمتنع عن أكل اللحم فهو حر في نفسه، لكن لا يجوز له أن يحرم على غيره لاحتمال أن يكون اللحم مسروقاً ويبتدئ ينظر له هذا التنظير، وعليه فورع المتقين لا يثبت حكماً.

يبقى الأصل بالنسبة للإفتاء: أن يتحقق الرجل من الدليل، فإذا لم يستطع أن يرجح فعندنا الأدلة القاضية باليسر ورفع الحرج وهي أدلة محكمة غير منسوخة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، هذا أصل عندنا، فإذا لم تستطع تحقيق المناط وعرض عليك أمران، وليس فيهما إثم -هذا شرط- ليس فيهما إثم فعليك بالأيسر، لأن هذا هو المناسب للأدلة العامة بنفي الحرج عن دين الله تبارك وتعالى.