[اعتماد أهل البدع منهج التشنيع على المحدثين للطعن في منهج أهل السنة]
السلفيون لهم مِنَّة في أعناق جميع المسلمين؛ لأنهم أصحاب المواجهة ضد الثنتين والسبعين فرقة، في اثنتين وسبعين جبهة مفتوحة ضد الطائفة المنصورة، صاحبة الطريق الوحيد، وقد ظهر ذلك في حياة الإمام أحمد بن حنبل، وفي حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.
لذلك فالتشغيب قائم على قدمٍ وساق ضد هذه الطائفة؛ لأنهم هم الذين يفضحون هؤلاء المبتدعة، ويغزونهم في عقر دارهم، ولا يجد المعتزلة لها عدواً مثل السلفيين، ولا يجد الأشاعرة لهم عدواً مثل السلفيين؛ لأن من عادة أهل البدع أنهم يداهنون أهل الباطل؛ ليسلكوا مذهبهم، لا مانع عند المبتدع أن يرى الرجل على طامة من الطامات فيدعه، يقول لك: دعه يهلك، المهم أننا نتخذه جسراً ونمر عليه.
أما أصحاب الطريق الواحد؛ الطريق الوحيد الذي تكلمنا عليه: (ما أنا عليه وأصحابي)، يرى أن هذا من الغش، لذلك فإن لهم في كل وادٍ معركة، وشيخ الإسلام ابن تيمية حامل لواء الدعوة السلفية المباركة في القرن الثامن الهجري، كتبه كلها عبارة عن جولات حربية مع المخالفين في الأصول وفي مسائل الإيمان، وفي التوحيد، والأسماء والصفات، بل وحتى مع المخالفين في المسائل الفقهية الجزئية مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحدود والديات وغيرها.
كل هذا سببه ماذا؟ أننا نستقي من الوحي، وأن مصدر التلقي عندنا مخالف لمصدر التلقي عند المبتدعة، ومصدر الاستدلال عندنا مختلف عن مصادر الاستدلال عند المبتدعة.
نبتت نابتة في القرن الثالث الهجري في العراق أزرت على المحدثين وأظهرتهم في ثياب النقص والجهل وأنهم لا يعرفون الفقه، ولعلكم تعلمون أن الذي يغلب على طابع المحدثين هو التمذهب بمذهب السلف، وأسعد الناس بنهج هذا الطريق الوحيد هم المحدثون؛ لأن المحدث كل حياته: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، فهو مثل القطار طريقه محدد لا يستطيع أن يخرج عنه، وكلما تسأله عن مسألة يقول لك: أخبرني فلان عن فلان عن فلان، ولابد أن يصل إلى صحابي أو إلى تابعي أو يصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا المعنى الذي عبر عنه سفيان الثوري رحمه الله حين قال: (الحديث درج والرأي مرج)، والمرج: مفرد مروج وهي السهول الواسعة الفيحاء، والدرج هو السُلَّم، قال: (الحديث درج والرأي مرج) أي: الحديث درج مثل سكة القطار، فإذا أردت الكلام في المسألة الفلانية لابد أن يكون عندك حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، أو قول لصحابي، أو قول لتابعي، أو قول لعالم، المهم لابد أن ترجع إلى أحد، أما الرأي فهو مرج حيث تعمل عقلك في المسألة حتى تصل إلى رأي، فالمرج: هو المكان الواسع الفسيح، فإذا كنت على الدرج -أي كنت على السُلَّم- فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، لأن فلتة الرِجل عن السُلِّم ثمنها غال، فما معنى ذلك؟ معناه: إذا أفلت من الدليل فإن ذلك ثمنه غال، أما إذا كنت في المرج فسر حيث شئت، فالمحدثون أشهر من مشى على هذا الطريق وأبرزهم.
فطلعت نابتة في القرن الثالث الهجري يتهمون أهل الحديث بالجمود، وأن حياة المحدث محصورة في: حدثنا وأخبرنا، لكن أول ما يأتي الفقه يسكت، وفي أحد مجالس هؤلاء قال أحدهم: مساكين أصحاب الحديث، لا يعرفون شيئاً في الفقه، قال الحسن بن عمر الهسنجاني -راوي هذه الرواية-: وكانت بي علة وكنت في أواخر الناس فزحفت إليه ثم قلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات فماذا قال علي، وماذا قال عمر، وماذا قال ابن مسعود؟ فسكت، قال له: واختلفوا في الأرش -دية الأصابع- فماذا قال عبد الله بن عمر، وماذا قال ابن مسعود، وماذا قال عثمان؟ فسكت.
فجعل يعطيه مسائل من هذا النمط، واختلفوا في كذا، فماذا قال فلان، وماذا قال علان، والرجل صامت، ثم قال له: تعيب عليهم شيئاً لا يحسنونه بزعمك، وأنت لا تعرفه؟! فحين تظهر مثل هذه النابتة، ويأتي من يتكلم في أصل الدين من أهل العلم، يقال له: أنت لا تفهم في الفقه، دع الفقه لأهله، ثم يدعوه للمناظرة ويقول: هيا بنا ندخل ميدان المبارزة، فإذا قال المحدث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، يرد عليه قائلاً: لا.
هذا الحديث لابد أن نفهمه على ضوء الآية، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:٦]، فالرجل حر، يدين كما يشاء، وهذا دليل من القرآن وهذا دليل من السنة وإذا حصل تعارض يقدم القرآن على السنة، وبهذا يكون قد لبس في هذه المسألة، وبجانب هذه الكلمتين يرفع صوته بالصياح، ولا يترك لك مجالاً للكلام، وإذا به يخرج وهو ينفض يديه قائلاً: هؤلاء لا يفهمون شيئاً، وأغلب العوام ينطبق عليهم القول القائل: (أول سارٍ غره قمر) فالعوام لا تحقيق عندهم، ولا يسمعون إلا للصوت المرتفع، فهذه طبيعة عند العوام، ويظل ذاك الداعية الناصح يحاول عرض بضاعته في أي مكان، إلا أنه يلقى صدوداً من الناس، لماذا؟ لأنه لم يفهم شيئاً في الفقه -بزعمهم-.
فهذه من الأشياء التي تترس بها أهل البدع ضد ضربات أهل الحق، ولذلك لابد لصاحب الحق أن يكون طويل النفس.
سألني أحدهم مرة فقال: لماذا تزيد كراهة الناس للعالم المقاتل؟ وضرب مثالاً بالإمام عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد بن حنبل.
عبد الله بن المبارك إمام مجاهد، زاهد عابد، هذا الرجل حين تقرأ سيرته تشعر أنه ليس في الدنيا مثله، فقد كان شامة في عصره كان جواداً، وكان تاجراً ناجحاً جداً، فكان عبد الله ينفق على ستة من أعلام عصره، وكان ينفق عليهم من حر ماله، وكان يقول: (لولا هؤلاء ما اتجرت) يعني: كان يتاجر خصيصاً حتى ينفق على هؤلاء الستة الذين لو بصق الرجل منهم بصقة فتقاسمناها لخرج كل من في المسجد علماء فكان عبد الله ينفق على سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وإسماعيل بن علية، والفضيل بن عياض، وكان يخصص لهم الرواتب أول كل شهر، ومرة جاءه رجل متسول، فأعطاه عشرة دراهم، فقال له رجل: إنه لا يأكل إلا الشوى -مثل ما نقول نحن: هذا الرجل معه فلوس وهو أغنى منك- أي كأنه يقول: يا إمام تعطيه عشرة دراهم، وهو لا يأكل اللحمة إلا مشوية على الفحم، قال: آلله؟ قال: آلله! قال: إذاً هو يحتاج إلى أكل، فلا تكفيه عشرة دراهم، فأرسل له بمائة درهم.
فكان يرى أن النفقة في الله، وليس عنده فرق أأخذها من يستحق أو من لا يستحق، بينما نحن عندنا شح في هذه المسألة، ونتذرع بحجة أن هذا لا يستحق، حتى وإن كان لا يستحق فأنت لا تعامله، يعني: ضع الصدقة في يدي ودعها تذهب إلى غير مكانها، ألست مأجوراً؟! ألست أنت تعامل الله عز وجل؟ فكان عبد الله بن المبارك لا فرق عنده فيمن يأخذ الصدقة أيأكل لحماً أو غير ذلك؛ لأنه رجل يضع الصدقة ويعلم أنه يعامل الله عز وجل.
ذهب ابن المبارك ذات مرة إلى الحج هو وغلامه وكان معهم أكل معفن فرموه في المزبلة، وبينما هو جالس إذ رأى بنتاً صغيرة ذهبت وأخذت الكيس الذي رموه في المزبلة ودخلت بيتها بسرعة، وجاء أخوها ووجد طائراً ميتاً فأخذه ودخل مسرعاً، فلفت نظره المنظر، فذهب وطرق الباب عليهم وقال: ما الحكاية؟ قالت البنت: والله ما لنا نفقة منذ ثلاثة أيام، وقد حلت لنا الميتة، فقال لغلامه: كم معك من المال، قال: معي أربعون ديناراً، قال: هات خمسة وثلاثين، وأعطاها للولد والبنت وقال: خمسة دراهم تكفينا للرجوع إلى البلد مرةً أخرى، هذا أفضل من حجنا هذا العام، فقد كان رجلاً فقيهاً، بالإضافة إلى أنه مجاهد، يضرب به المثل، أول ما يذكر المجاهدون إذا عبد الله بن المبارك على رأسهم، كأنه مرابط على الحدود، وكان في غزوة من الغزوات فأبلى فيها بلاءً عظيماً، ولما جاءوا يقسمون الغنائم تركهم وانصرف، فلما سئل عن ذلك أجاب بأنه لم يأت للمغانم وإنما جاء للجهاد أما الغنائم فيتركها للناس.
أما من ناحية الحديث والفقه فكان ثبتاً وإماماً كبيراً، -وأنا حين أتحدث عن عبد الله بن المبارك فإنما أتحدث عنه حديث المحب المتيم، فلو قرأت سيرة عبد الله بن المبارك لعذرتني، رغم تقصيري في حقه لأن الموضع ليس موضع شرح سيرة عبد الله، لكن الحديث ذو شجون، والواحد إذا أحب أحداً أطال الحديث عنه.
فصاحبنا يقول لي يوم أمس: لماذا عبد الله بن المبارك لم يكن له خصوم يكرهونه بخلاف أحمد بن حنبل؟ قلت: لأن أحمد بن حنبل كان مقاتلاً يدك الحصون، وجاء وقت دك حصون المبتدعة، ونحن نسلم أنه لو كان عبد الله بن المبارك موجوداً في زمن أحمد بن حنبل لكان فعل مثلما فعل أحمد إن شاء الله، فالذي يهاجم ليس كالرجل الساكن، فالساكن لا خصوم له، إنما الرجل الذي يناوئ هذا ويناقش هذا ويدك معقل هذا المبتدع، لابد من أن تجد له خصوماً بصفة مستمرة، وكلما كثر خصوم الرجل في الحق دل ذلك على نباهته، وعلى علمه وذكائه، وهذا مستقى من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فالصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه) فأهل البدع لهم أصول يضعونها ليتخلصوا بها من دلالات النصوص، وعفا الله عن أبي الحسن الكرخي -أحد أصحاب أبي حنيفة رحمه الله- كان يقول: كل آيةٍ وحديثٍ يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ.
يعني كلام أصحابه هو الأصل، وكلام الله ورسوله هو الفرع، أي: إذا حصل التعارض يكون كلام الله إما منسوخاً أو يحمل على غير ظاهره، فهل هذا من تعظيم النصوص؟! إن تعظيم النص أن يكون كلام الله ورسوله هو الأصل، كما قال