[العالم الرباني ومهمته]
مهمة العالم الرباني شاقة جداً؛ لأنها تتمثل في أمرين: الأمر الأول: أن يأخذ الخرافة من نفوس الناس، وأن يرفع كل هذه الأشلاء.
الأمر الثاني: أن يصب الإسلام الصحيح في هذه النفوس، وقد يموت وتموت بعده أجيال قبل أن ينتشلوا الخرافة من قلوب المسلمين، فضلاً عن أن يبذروا بذرة الإسلام الصحيح، هذا هو البناء الصحيح، ليس هناك إيمان إلا بعد كفر، أن تكفر بالطاغوت ثم تؤمن بالله عز وجل؛ لأنه لا يستقيم أن تؤمن بالله وهناك طاغوت في قلبك، ارفع الأشلاء والأنقاض ثم ارم الأساس الصحيح، فهذا الركام الذي يرمى على الساحة الإسلامية وتبتلعه اللصوص، فكيف لي بمعول أجتث به هذه الشجرة الملعونة في حياة المسلمين؟! وقد تتقطع الأعناق والرقاب دون اجتثاثها؛ لأن هناك أيد كثيرة جداً تحرص على أن تظل هذه الشجرة الملعونة.
فمهمة العالم الرباني شاقة جداً، وهم مبتلون بتحريف النص عنهم أيضاً، وإشاعة الإشاعات أيضاً عنهم، فلا يكاد يسلم عالم رباني من إشاعات مغرضة تشوه تاريخه، وحسبنا بالشيخ ناصر الدين الألباني محدث العصر.
هذا الرجل افترى عليه كثيرون جداً ما لم يقله، وبسبب هذه الافتراءات شرد في بلاد الأرض، فلا ترى له وطناً ولا سكناً، وحياته في الفترة الأخيرة مؤلمة جداً، عالم مثل هذا العالم يشرد في بلاد الأرض؛ ولأنه يرى حرمة السفر إلى بلاد الكفر فهو لم يتجه إلى أمريكا وفرنسا أو غيرها وإلا لوجد حرية كبيرة، فظل على حدود الإمارات ستة أشهر! ممنوع من دخولها! وممنوع من دخول الكويت! وممنوع من دخول السعودية! وممنوع من دخول سوريا كيف لهذا الرجل أن يعيش؟ وما دخَل الأردن إلا بتزكية خاصة من تلميذه الشيخ محمد بن إبراهيم الشقرة وكيل وزارة الأوقاف وإمام مسجد دار الصفوة، فدخل إلى الملك حسين بصفته الشخصية يطلب منه دخول الشيخ ناصر الدين الألباني إلى الأردن مع التعهد بألا يلتقي بأحد، وأجبروه أن يكتب على باب (الفيلا) (ممنوع مجيء أكثر من اثنين) لأنه تجمهر، ولا بد من موعد على الهاتف.
وفي الأيام الأولى ضيقوا عليه بشدة، لكن في الأيام الأخيرة وبعدما أنسوا جانبه تركوا له هذا الأمر، حتى أنه -في زيارتي لعمان- دعا مجموعة للغداء وصادف أن كنت فيهم، وكنا خمسة وعشرين فرداً، فخرجوا فقلت للشيخ: هذه اللافتة تقول: ممنوع دخول أكثر من اثنين.
قال: هم دخلوا اثنين اثنين! هو سريع البديهة جداً! فهذا العالم لا يوجد له مكان يستريح فيه، وقبل ذلك منعوا دروسه العامة في مسجد عمر في الزرقاء، حتى أنه لم يتمكن أن يلقي دروساً على طلاب العلم إلا في بيت أحدهم خلسة بعد صلاة العشاء.
وعندما وقع مؤتمر السنة والسيرة النبوية في مصر لم يستدعوا الشيخ ناصر الدين الألباني -وهو أعظم الناس منة على المسلمين في هذا العصر للسنة والسيرة النبوية وما قالوا للشيخ ناصر: تعال وشرفنا حتى ولو عضواً، لا تتكلم.
ومثل هؤلاء العلماء الربّانيين، انظر إلى معاملة الجهات الرسمية لهم! كيف يمكن أن ينتفع المسلمون بهم وهم مشردون في الأرض؟! بل الأغرب من ذلك: أنه حصلت مصادرة في بعض البلاد وهجوم الشرطة على المكتبات، كتاب تحذير الساجد، وكتاب (حرمة التصوير) للشيخ الألباني والشيخ ابن باز ولفيف من العلماء، وتحقيق شرح العقيدة الطحاوية لماذا يا إخواننا؟ قالوا: هذه الكتب ممنوعة، والأزهر نص على أنها ممنوعة! كيف ممنوعة؟! بالذات الشيخ ناصر الدين الألباني وتعليقاته.
أهذه معاملة العلماء الربانيين العاملين؟! جحود شديد! إيجاد هؤلاء العلماء الربانيين يتمثل فيك أيها المسلم في معاملة ولدك، من منكم قال في نفسه: أنا نذرت ولدي هذا لله؟ وجد وسعى حثيثاً في تربيته على الهدف الذي يريد، من منكم فعل هذا وبدأ يقوم لولده الدعامة الأساسية، بأن يوصله إلى المشايخ لكي يتعلم، ويكون له مكتبة، ويزيح هذا الجهاز من البيت إن كان موجوداً، ويبدله بالكتب، فأول ما يشب الولد لا يرى إلا موضع الكتب، فينغرس في قلبه حب الكتب، وأنت لا تسمع عن أحد من العلماء النابغين إلا وأبوه كان عالماً، وجده كان عالماً إلخ.
وإذا نظرت إلى شيخ الإسلام رأيت جده أبا البركات شيخ الحنابلة، ثم أباه عبد الحليم شيخ الحنابلة، فمن الطبيعي جداً أن يكون ابن تيمية شيخ الحنابلة، لأن جده وأباه أساس المذهب الحنبلي في دمشق، كذلك ابن مندة، أسرته بيت عريقٌ في العلم، وكلهم علماء، وكذلك والمقادسة كلهم علماء أيضاً، فلتكن أنت أول طالب علمٍ في أسرتك، فيأتي أولادك فتهتم بهم، وقل: هذا لله، أنا سأربيه حتى يكون عالماً، عندنا آلاف الأطباء والصيادلة والمهندسين! عندنا الآلاف في كل شيء، لكن ما عندنا علماء شرعيون، تحدث فتنة جديدة -هرج ومرج- ولا ندري من يفتي فيها الفتوى الصحيحة، أقرب مثال على ذلك اللحوم المستوردة، عندما كنا نقرأ الأخذ والرد نستغرب جداً؛ لأنه لا يوجد من يحكم هذه القضية لماذا؟ لأن المعطيات غير موجودة، تحدث فتوى جديدة يحتار فيها الشباب حتى يصلوا إلى عالم واحد مثلاً في آخر الأرض يصنع الفتوى، والله يعلم إن كان الجواب يصل الجواب صحيحاً، أو باطلاً، مشكلة كبيرة! وكان ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتابه يقول: وإني لأنظر إلى كل الصناعات فأجدها كفيت إلا هذه الصنعة، فكأنها التي عناها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛ اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا) قال ابن حبان: فكأن العلم -علم الحديث والفقه- هو العلم المعني بالانتزاع.
كل يوم في مصر إذا راح عالم شغر مكانه سنين طويلة، أخبروني بعد الشيخ أحمد شاكر: كيف صارت الديار المصرية خالية ممن يفقهون بالحديث، أين الفقهاء من الطراز الكبير الموجودون في مصر؟! لعل المخلصون منهم لا يجدون وسائل الإعلام، هناك بلا شك طاقات كبيرة جداً في مصر، ولكنها متوارية، حتى يكاد أن يقال: إنه لا يوجد أحد، إذا مات الواحد منهم شغر مكانه فترة طويلة من الزمن، حتى يخلفه آخر، وهذه مشكلة كبيرة تدل على الشيء الذي يعاني المسلمون منه الآن.