[حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار يرد على الصوفية في تعريفهم للإخلاص]
يكفي أن يُرد على هؤلاء بحديث واحد ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح لفاعله، وإن لم يفعله أحد من هذه الأمة، ولكنه حدث في بني إسرائيل، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(خرج ثلاثة ممن كانوا قبلكم يرتادون لأمرهم، فأخذهم المطر، فآواهم المبيت إلى غار، فلما دخلوا الغار سقطت صخرة من أعلى الجبل مما يهبط من خشية الله، فسدَّت عليهم باب الغار، فالتفت بعضهم إلى بعض وقالوا: سقط الحجر وعفي الأثر، ولا حيلة لكم إلا بالله، فادعوا الله بصالح أعمالكم.
فقال الأول: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً)، والغبوق: هو الشراب بالعشي، يقول: كنت لا أسقي بالعشي أحداً قبلهما، والشراب في الصباح اسمه: صبوح، (فنأى بي طلب -أي: الشغل- يوماً، فلم أرد عليهما، فجئتهما وقد ناما، فوقفت على رأسهما ولم أوقظهما، ووضعت الإناء على كفي والصبية يتضاغون -أي: يصرخون من الجوع- تحت قدمي، وأنا أكره أن يشرب أحد قبلهما، فما زال ذلك دأبي ودأبهما حتى برق الفجر، فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثاني: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأصابتها سنة، فجاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ثم جاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فرضيت، والتمست لها مائة وعشرين ديناراً، فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه! فقمت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت لها المال، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجراء استأجرتهم على فرق من أرز -أو ذرة- فاستقل أحدهم أجره فذهب مغضباً وتركه، فثمرته له حتى كان منه البقر والإبل والغنم، فجاءني وقال: يا عبد الله! ادفع إلي حقي ولا تبخسني حقي، فأخذته على سقف البيت وقلت: انظر! كل الذي ترى لك، هو من مالك، فقال: يا عبد الله! لا تسخر بي، قال: هو كما أقول لك، فاستاق النعم كلها ولم يترك منها شيئاً؛ اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون).
فهؤلاء علموا أنهم أخلصوا في هذا العمل، فدعوا الله عز وجل بما يتيقنون أنهم أخلصوا فيه، فإن الكذب على الله جريمة من أعظم الجرائم، فكيف يقول لله عز وجل وهو كاذب: اللهم إن كنت تعلم! ويكذب في الموضع الذي يبتغي فيه النجاة؟!! فعليه نعلم أن المضطر مخلص في اضطراره، حتى لو كان مرائياً في غير ذلك، قال الله تبارك وتعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ ُُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [يونس:٢٢ - ٢٣]، وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت:٦٥]، وقال تبارك وتعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}[لقمان:٣٢].
فالعبد يخلص إذا أصابه الاضطرار، وهل تخلّص العبد من الاضطرار، وحياته كلها أزمات، وكلها محن ومصائب؟! فهو محتاج إلى ربه دائماً، وهو مضطر دائماً، فلِمَ يخلص في موضع ويرائي في آخر؟!