فلذلك استغفر موسى عليه السلام ربه:{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ}[القصص:١٦] بالنسبة لمقامه.
قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيح للتابعين:(إنكم لتفعلون الشيء هو أدق من الشعرة عندكم إن كنا نعده على زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر) لماذا؟ الكبائر معروفة، فهم يفعلون الفعل أدق من الشعرة يقول: هذا كان عندنا -أي: مع معاشر أهل الورع- من الكبائر، وإن كان ليس كبيرة في ذاته، ولكنه كبيرة بالنسبة لمقام الإنسان، كلما شرف صدر الإنسان ونبل استعظم الناس صدور الذنب منه، ولا يستعظمون الكبيرة من أهل الفسق، وهكذا عندما يفعل هذا نبي من الأنبياء -حتى ولو كان مباحاً له أن يفعله- لكن ليس لائقاً من مثله في مقامه ومكانته، فإنه يعتبر هذا ذنباً كبيراً يستغفر منه، وكذلك أهل النبل دائماً يستعظمون الشيء الدقيق، وكذلك أهل الإيمان كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن المؤمن ليرى ذنبه الدقيق كالجبل العظيم، وإن الفاجر ليرى ذنبه العظيم كمثل الذباب يقع على أنفه فقال به هكذا فطار) الرجل المؤمن يرى الذنب الدقيق كالجبل العظيم، فلو قلت له: ماذا أذنبتَ؟ يقول: هلكت! ارتكبت موبقة من الموبقات، مع أن هذا الشيء في الميزان لا يساوي شيئاً إنما استعظمه بالنسبة لورعه ومقامه.
وفي حديث البخاري في كتاب بدء الوحي من حديث ابن عباس (لما دخل أبو سفيان على هرقل وجعل يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم وأدنى هرقل أصحاب أبي سفيان منه ليقرروه، وقال لهم: إن كذب عليَّ فأعلموني -أنا إنما جعلتكم معه حتى إذا كذب قلتم: كذب- فيقول أبو سفيان وكان كافراً إذ ذاك: ولولا أن يؤثروا عليَّ كذباً لكذبتُ) أي: لولا أن يعيروني يوماً ما بأنني كذبتُ لكذبتُ، مع أنه في أمس الحاجة إلى الكذب، هرقل يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم كفار يعادونه ويقاتلونه ألا يفترون عليه؟ طبعاً سهل جداً أن يفتروا عليه يسألهم -مثلاً-: هل هو أمين؟ يتمنى أن يقول: هو خائن، لكن الذي صده عن ذلك خشية أن يأثر عليه قومه الموالون له الكذب.
إن الإنسان النبيل لا يكذب وإن لم يأتِ نهي شرعي بذلك؛ لأن الكذب معروف أنه من الدناءات، أي إنسان يحترم نفسه لا يسقط في الدناءات ترفعاً لا ديناً، يترفع أن يسقط في المستنقعات، لو كان عنده نبل.
فموسى عليه السلام استعظم من مثله وفي مقامه أن يقتل خطأً؛ لذلك فقد عد هذا ذنباً يجب منه الاستغفار، ولذلك بادر وقال:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}[القصص:١٦] مع أنه ما قصد: {فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَه}[القصص:١٦].
وهنا شرط: من أراد أن يغفر الله له فلا بد أن يعترف بذنبه وظلمه أولاً؛ لأنه إذا لم يعترف فلن يتب، الاعتراف بالذنب فيه انكسار؛ لكن أن يذهب إلى ربه ويطلب المغفرة منه وهو شامخ رافع الرأس، فمثل هذا لا يُغفر له.
ففي حديث الإفك الذي رواه الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها:(يا عائشة! إن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه).
فإذا أردت أن تخرج من ذنبك، قل: يا رب! إني مذنب، إني ظالم لنفسي، إني جاهل، فاغفر لي، فإذا قدمت بهضم النفس وكسرها ودق عنقها ضَمُن أن يستجاب لك، لذلك قال موسى:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}[القصص:١٦] فقال الله عز وجل: {فَغَفَرَ لَهُ}[القصص:١٦] بفاء التعقيب، أي: غفر له فوراً بمجرد أن اعترف وخرج من ذنبه: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[القصص:١٦].