للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طريقة التعامل مع المدعوين تختلف من شخص لآخر]

رابعاً: الصبر: إن الداعية سيقابل أخلاقاً شتى: يقابل المبتدع، والزنديق، والكافر، والموالي له، ويقابل الولي والعاصي، سيقابل كل هذه الأنماط، ولا يجوز له أن يسوي بينها جميعاً في المعاملة، فمعاملة العاصي بخلاف معاملة الطائع، ومعاملة الزنديق والحاسد تختلف، إذا كان الداعية ضيق العطن لا يستطيع أن يعامل الناس كلٌ بنمطه سيفشل في دعوته، فقد تجد أناساً يرمون عليك الكلام، وأنت تفهم أنه يعنيك، ويقصدك بالكلام، فإياك أن تظهر له أنك ذكيٌ فاهم، فإنك إذا بينت له أنك فهمت ضيعت على نفسك سلاحك، كما أن رأس مال التاجر المال، فرأس مال الداعية الناس.

يعني مثلاً: لو أن هناك تاجراً خدعه أناس وأعطوه نقوداً مزيفة، وكانت النقود كثيرة، مائة ألف أو مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف ثم اكتشف أن هذا المال مزيف، ماذا يعمل؟ يقوم بتصريفها أيضاً على آخرين؛ لأنه سيقول لك: لا، أنا سأخسر رأس مالي -وهذا لا يعني أني أقره على فعله- إنما أخبرك بما يفعله الناس، فهو مثلما خدع فإنه يخدع غيره من الناس، ويجد لنفسه عذراً في ذلك.

التغافل في بعض الظروف والأوقات يعتبر أحد الأسلحة الناجحة، فإياك أن تسوي بين الناس جميعاً في المعاملة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية يسأله ونحن نستمع).

إذاً: لو سأل أنس رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يغضب؛ لأنه نهاه؛ لكن إذا جاءه رجلٌ من البادية لم يسمع النهي فسأله فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعامل صاحب البادية معاملة المقيم في الحضر، ومن الظلم أن يسوى بينهم، كان يتجاوز لأهل البادية إذا خالفوا، ولا يتجاوز لأهل الحضر.

رجلٌ أعرابي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام معه قعوداً -والقعود هو الجمل الصغير- فاستملحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للأعرابي: تبيعني هذا الجمل؟ قال: بكم تشتريه؟ قال بكذا، قال: اشتريته منك وسأنقدك ثمنه إذا رجعنا إلى المدينة، فجاء رجلٌ آخر من المسلمين لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى الجمل، فقال للأعرابي تبيعني الجمل؟ قال: بكم تشتريه؟ قال بكذا.

وزاد الأعرابي في ثمن الجمل على الثمن الذي اشتراه به النبي عليه الصلاة والسلام، فقال الأعرابي صاحب الجمل: بعتك! ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إما إن تعطيني ثمن الجمل الآن وإما سأبيعه، قال: أولم تبعني الجمل يا أعرابي؟ قال: ما بعتك شيئاً! قال: بلى بعتني! قال: ما بعتك شيئاً، هلم شهيداً يشهد أنني بعتك، يبيع للنبي الجمل ثم يقول له: ما بعتك وأت بشاهد، هذا كُفر، لأنه تكذيب للنبي عليه الصلاة والسلام، والمسلمون يلوذون بالنبي عليه الصلاة والسلام ويقولون للأعرابي: ويحك! إنما يقول رسول الله صلى الله عليه حقاً، وهو لا يزال يقول: هلم شهيداً! حتى جاء خزيمة من مكان بعيد، فوجد اجتماع الناس وضوضاء، فسأل عن الأمر فأُخبر بالقصة، فدخل مباشرة على الأعرابي وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: أشهد بتصديقك، نحن نصدقك في خبر السماء أفلا نصدقك على بعير.

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين، في حين أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يقبل من الصحابة القريبين منه أدنى من ذلك يرى مثلاً عبد الله بن عمرو بن العاص يلبس ثياباً حمراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن لبس الثوب الأحمر القاني -أي: الحمراء، الأحمر البحت الذي لم يخالطه لون آخر- هذا ممنوع أن يلبسه الرجال، ويدخل في أزياء النساء، فلما جاء عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يلبس ثياباً حمراء سلَّم على النبي عليه الصلاة والسلام فأعرض عنه ولم يرد عليه، فـ عبد الله بن عمرو فطن إلى هذا، فذهب إلى داره فوجد أهله وقد سجروا التنور؛ فخلع القميص ورمى به داخل التنور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهه، وبدَّل ثيابه ورجع، فسلم فرد عليه وقال له: ما فعلت بثيابك؟ قال: سجرت بها التنور! قال: فهلا أعطيتها بعض أهلك، إنه لا بأس بها للنساء.

طبعاً هذا الحديث لا يعارض الحديث الصحيح الآخر أظنه حديث البراء أو حديث سمرة بن جندب أو جابر بن سمرة: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وعليه حلةٌ حمراء؛ فيحمل هذا الحديث على أن الأحمر لم يكن بحتاً إنما خالطه لونٌ آخر لكن اللون الأحمر كان هو الغالب، وإذا كان لون لباس هو الغالب نسب اللون إليه، فمثلاً: إذا كان هذا ثوباً أبيض وفيه بعض ألوان أخرى مثل الأخضر أو الأزرق أو الأصفر أو نحو ذلك لكن الغالب عليه البياض، فأنت تقول: ثوبٌ أبيض، لماذا؟ لأن هذا هو الغالب عليه، أو يحمل أن هذا كان قبل نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن لبس الأحمر.

المقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يسوي بين الناس في المعاملة، فالداعية ينبغي أن يكون عنده بدائل، فيكون عنده للعاصي طريقة، وللمبتدع طريقة، وللذي يرميه ويؤذيه بالكلام ويستهزئ به طريقة أيضاً؛ وهو أن يستخدم معه لغة التغافل، وألا يظهر له أنه فهم؛ لأنك لو أظهرت له أنك فهمته فقد ضيعت على نفسك الطريق الذي ستسلكه إلى قلب هذا الرجل.

الرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (وكانت قريش تسب النبي عليه الصلاة والسلام، لكن قبل أن تسبه كانت تقلب اسمه، فهو محمد فيقولون له: يا مذمم!) مثل شخص اسمه منصور فيقول له شخص: يا منخور، فيقلب اسمه، فالرسول عليه الصلاة والسلام اسمه محمد وهم يريدون شتمه، فلكي يغيظوه أكثر بدلاً من أن يقولوا: لعن الله محمداً قالوا: نخلف اسمه ونشتمه، وهكذا نكون قد ذممناه مرتين: مرة بقلب اسمه إلى الضد، ومرة بشتمه، فهو محمد وهم يقولون له: يا مذمم! ثم يشتمون مذمماً: لعن الله مذمماً! قتل الله مذمماً! قبح الله مذمماً! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (انظر كيف يصرف الله عني شتم قريش، إنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد)، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أنهم يقصدونه بالشتم، وأنهم يوجهون الشتم إليه، لكن طالما شتموا اسم رجل آخر إذاً فلا يلحقه الشتم: (انظر كيف يصرف الله عني شتم قريش، إنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد).

فطرق التعامل مع المدعوين لابد أن تختلف: العاصي لا تعامله معاملة المبتدع؛ لأن المبتدع شرٌ من العاصي، المبتدع يتقرب ببدعته إلى الله يظنها ديناً، لكن العاصي يعلم أنه عاصٍ لله لكن غلبه هواه، وأنت عملك عمل طبيب رفيق، رجلٌ غلبه هواه ماذا تعمل معه، تقتله أم تعينه على أن يتخلص من هواه؟ تعينه على أن يتخلص من هواه.

يعني رجل يقرأ في كتب أهل البدع ورجل يقرأ في كتب الجنس والغرام، أيهما أشر؟ الأشر هو الذي يقرأ في كتب أهل البدع، لماذا؟ لأن هذا الرجل الذي يقرأ في كتب الجنس والغرام، والذي يقتني المجلات الجنسية الفاضحة ليتفرج عليها، إنما يتفرج عليها بعدما يقفل الباب، وبعدما يكمل يخفيها عن الأنظار، لماذا؟ لأنه يعلم يقيناً أن هذا منكر، ولا يستطيع أبداً بأي حالٍ من الأحوال أن يقول أو يقنع أحداً أن هذا من المعروف، والرسول عليه الصلاة والسلام عرف الإثم تعريفاً جامعاً، لا تشذ عنه حالةٌ واحدة، قال: (الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس)، هل يمكن لأحد أن يعرف الإثم بهذا التعريف الجامع المانع إذاً الإثم هو ما فعلته وأنت مستتر مختفٍ من أعين الناس، كل شيء يدخل تحت هذا التعريف فهو داخل في كلمة الإثم دق أو جلَّ.

لكن المبتدع، يقرأ في كتب البدع ويظن البدعة ديناً يتقرب بها إلى الله، فمهما قلت له: هذه بدعة، يقول لك: هذا دينٌ! يتقرب إلى الله بذلك، إذاً كيف تصده وتردعه، وتثنيه عن بدعته؟ ولذلك العاصي أخف من المبتدع، قال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، واعتبروا بقصة الجعد بن درهم المذكورة في كتب التاريخ، وهو رجلٌ عارض الله عز وجل فقال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فلما جيء به ليقتل لم يتبرأ من مقالته وصبر على القتل، مع أنه كان من الممكن أن يقول: أنا تبت وينجي نفسه من القتل؛ لكنه كان يعتقد أن البدعة التي هو عليها دينٌ يدين الله به، كما لو جئنا لرجلٍ من أهل السنة والجماعة -مثلاً- وقلنا له: اكفر بالله! فيقول لك: لا، أقتل ولا أكفر بالله، ويرضى أن يقتل ولا يكفر بالله، لماذا؟ لأنه يتخذ القرآن والسنة ديناً، كذلك المبتدع.

فعندما تعامل العاصي فتعلمه أولاً، وتتلطف به، وتعينه على الخروج من هواه، لا تعطه أمراً وأنت تضع رِجْلاً على الأخرى وتهدده: تاب أو لم يتب فليذهب (في ستين داهية) وأنه لن يقبل منه عمل، وأنت حرٌ، هذا ليس من شأن الداعية، الداعية صبور حليم، إذا شتم لا يرد، كانت العرب تقول: لا تجار السفه بسفهٍ مثله فإنك إن جاريته بسفهٍ مثله فهذا يعني أنك رضيت فعله فحذوت حذوه! أنت غضبت لأنه سفيه، إذاً فلا ينبغي أن تكون سفيهاً عليه، ما كان ينبغي لك أن تفعل فعلاً أنكرته عليه.

النبي عليه الصلاة والسلام يأتيه سائل من الأعراب يطلب مالاً، يعني لو أتاك سائل يقول: أعطني فتعطيه ربع جنيه، فيقول لك: هذا لا يغطي حتى ضريبة المبيعات!! وأين غلاء المعيشة؟! أو تعطيه ربع جنيه فيقول: أريد ربع جنيه فضة!! فكون هذا الشخص متسولاً فعليه أن يرضى بالقليل دون أن يتكبر أو يسخر.

فهذا أعرابي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريد مالاً فجذبه من حاشية الثوب حتى أثر في رقبته وهزه هزاً عنيفاً، وقال له: أعطني من مال الله فليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك! -إذا