للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استغلال منابر الإعلام في نشر الفتاوى المتضاربة مما يفقد العامة الثقة في العلماء]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

الذي يفرق بين الغرباء الأولين وبيننا في الغربة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصدر الضوء بالنسبة للغرباء.

لقد شكا كثير من العلماء من تولية منصب الإفتاء لرجل ليس ضليعاً في الفتوى؛ لأن الأمر -كما قال الأولون-: (إذا زل العالم زل بزلته عالَم)، فهذا المفتي لابد أن يكون عالماً متيناً، بمعنى أنه يجب عليه أن يغضب لله ورسوله، لكن يبقى يفتي الناس، ويرى المنكر ولا يتمعر وجهه؛ فهذا يفقد مصداقيته.

وعندما يفتي -مثلاً- بأن فوائد البنوك حلال، وتقوم الصحف الرسمية والمجلات بنشر هذا الرأي، وبتمجيد المفتي، حتى إن مجلة (أكتوبر) جعلته الرجل الأول في استفتاء عام (٨٩م) كلاعبي الكرة والممثلين، ولا يستغرب ذلك؛ لأن الجماهير العريضة كانت تنتظر فتوى تحليل الربا.

وفي نفس الوقت يفتي -وقد أصاب في ذلك- أنه لا يجوز أن تقام مسابقات ملكات الجمال؛ لأن هذا يعتبر عهراً رسمياً، امرأة تأتي ليقيسون أردافها ووسطها ونهديها بالمقاس، ويعرضون العورات على مرأى ومسمع من الناس، وفي الفنادق الكبرى، ولها تصريح رسمي، وعندما يقولون لهم: هذا لا يجوز؛ لأن هذا حرام، فلا يستمعون لهم، ولا يقيمون لهم وزناً.

يهللون للأولى ويتعامون عن الثانية إن المرء ليفقد ثقته في أمثال أولئك.

وجاء آخر وأول ما تولى منصب الإفتاء قال: إن اتحاد المطالع هو الراجح، وإذا رأينا الهلال في بلد مجاور لنا يشترك معنا في جزء من الليل يجب علينا أن نصوم.

وبعد ذلك جاء في رمضان الثاني وقال: اختلاف المطالع هو الأصل، ولا عبرة باتحاد المطالع، فإذا رئي في بلد يشترك معنا في جزء من الليل فلا يجب علينا أن نأخذ برؤيتهم، ونشر هذا القول في (الأهرام).

فجاء هذا العام وقال: إن اتحاد المطالع هو الأفضل، وهو الراجح، فإذا رُئي الهلال في بلد يشترك معنا في جزء من الليل يجب علينا أن نصوم.

فهل نبدل الفتاوى كما نبدل النعال؟! فهذا يدل على أنه لا يوجد تأصيل علمي؛ لأن المرء إذا اعتمد على اجتهاده في فتوى، فهو يفتي أولاً عن دليل راجح له بعد بحث طويل مقنع، فمثل هذا لا يتحول عن اجتهاده بسهولة، لاسيما والأدلة مبسوطة في مواضعها، فما الذي خفي عليه وعلمه حتى يبدل فتواه ثلاث مرات في سنتين؟! فما بالك بالذين يضلون الناس عن عمد أو عن جهل؟! مثال آخر: جماهير العلماء كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري وابن وهب وغيرهم من العلماء: أنه لا يجوز اجتماع قبر ومسجد في دين الإسلام، ولا يجوز بناء المساجد على القبور.

ومع ذلك يخرج علينا رجل مشبوه مجيباً على سؤال نصه: هل اتخاذ المساجد على القبور شرك؟ قال: ومن قال هذا؟ ليس بشرك.

وحتى يثبت عملياً أنه ليس بشرك عقد مجلسه الدائم في مسجد الحسين، فانظر إلى هذه الغربة التي يعيشها الحق وأهله! إذ يرى الذين يدخلون ويقبلون الأعتاب، ويسألون المدد من غير الله تبارك وتعالى، ويرى شرطياً يقف حتى ينظم المرور من اليمين إلى الشمال، كما لو كانوا يطوفون بالبيت العتيق ولا ينكر، ولا تهتز له شعرة، وهذا دليل عند العوام والطغام أن القبر يجوز أن يجتمع مع المسجد، وأن دعاء الأموات ليس بشرك! فماذا يفعل الدعاة المصلحون؟ فهل يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم لوكان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث تكسرت النصال على النصال، وضعفت أبدان الدعاة عن تحمل العذاب، وتحمل مخالفة الجماهير العريضة لهم؛ حتى صار الواحد منهم كالغريب في أهله.