[غلو الصوفية في النبي صلى الله عليه وسلم]
لقد وجدنا من بعض المسلمين المبتدعة من صنف كتاباً سماه (تشنيف الآذان باستحباب ذكر الزيادة عليه الصلاة والسلام في التشهد والإقامة والأذان).
يعني: أن تقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، أو تقول: اللهم صل على سيدنا محمد.
وجمعني مجلس ببعض من ينتحل هذه البدعة، فقلت له: إن هذا لا يجوز، والأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة.
فواحد من الجلوس قال: يا أخي! الرسول يقول: (لا تسيدوني في الصلاة) يعني: يعاضدني وينصرني عليه، فقال له: هو قال هذا تواضعاً ونحن سنسيده، هل أنت تريده أن يقول: سيدوني وهو سيد المتواضعين؟ لا.
فانظر سوء الأدب! مع أن الحديث لا يصح ولا أصل له (لا تسيدوني) واللفظ السليم: (لا تسودوني) من السؤدد، والحديث لا يصح، لكن انظر إلى سوء أدب هذا المبتدع، حتى لو صح الحديث لا تسودوني في الصلاة، فكيف يقول: لا، سنسودك؟! وبصراحة هو يحتاج إلى تسويد، لأنه هو المتكلم بها، محتاج إلى سلطان شرعي يسودها عليه، كيف خالف النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه، يقول: لا تفعلوا، يقولون: بل سنفعل وهذا من سوء الأدب! وهو بداية الغلو، أليسوا هم الذين يقولون: يا نور عرش الله! يا بحر جاري في علوم الله! وهم الذين يقولون: حضرة النبي، وبنوا هذا الكلام على قصة تافهة لا قيمة لها، فقد زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بجسده مجالس الصوفية، ولذلك سموا الجلسة (حضرة) لأنه صلى الله عليه وسلم يحضر، وهي إشارة إلى أنه يحضر بجسده صلى الله عليه وسلم.
فهناك طوائف ينتمون إلى المسلمين كفروا بالله ورسوله بسبب الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام، أليست بردة البوصيري التي كادوا أن يجعلوها قرآناً يقول فيها: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم من علومك!! و (من) هذه تفيد التبعيض، يعني: جزء مما عندك من العلم علم اللوح والقلم! حسناً: الذي هو جزء من علومه علم اللوح والقلم لا يعرف متى تقوم الساعة!! لا يعرف متى ينزل الغيث ولا ما في الأرحام! وهذه مسائل النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلمها حتى أوحي إليه فكيف نقول: إن عنده علم اللوح والقلم.
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب حديث صفوان بن أمية لما قال لـ عمر بن الخطاب: أريد أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج، في خيمة، فجاءه رجل متضمخ بالطيب، فسأل عن ذلك؟ فسكت، وأخذه ما يأخذه عند نزول الوحي -العرق الشديد واحمرار الوجه والغطيط، فنادى عمر بن الخطاب صفوان بن أمية وقال له: انظر- وبعد أن سري عنه قال: انزع جبتك واغتسل.
فكيف نقول: إن عنده علم اللوح والقلم وهو في هذه المسألة سكت حتى نزل عليه الوحي؟ وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب؛ فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين.
قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق؛ فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا.
قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه؛ فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن).
فهناك مسائل لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلمها، ولا يجيب عنها حتى ينزل الوحي، وكثيراً ما سئل، ولم يجب حتى ينزل الوحي: مثلاً {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:٨٥]، نزل الوحي، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:١]، نزل الوحي وهكذا، كان يُسأل السؤال وينزل الوحي يسألونه عن الساعة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف:١٨٧]، فكان ينزل الوحي، ولم يكن عنده جواب ذلك حتى يعلمه الله تبارك وتعالى.
فلما يأتي رجل يريد أن يمدح النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (ومن علومك علم اللوح والقلم) هذا غلو مرفوض، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أصحابه عن أقل من ذلك، فنهاهم أن يقوموا له؛ لأن القيام مظنة التعظيم، وقد صح عن أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وما على الأرض شخص أحب إلينا منه فما نقوم له لما نعلم من كراهيته لذلك) لأن القيام تعظيم، ولذلك من سوء التربية في المدارس؛ أنهم يأمرون الطلبة بالقيام للأستاذ، وهذا ليس من التربية، إذ لو كان خيراً ما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فالطالب إذا لم يقم للأستاذ يغضب عليه ويعاقبه وقد يفصله من المدرسة؛ لأن هذا -عندهم- من الأدب والتعظيم والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن القيام له، كل هذا مع أنه معظم عندهم، وهو سيدنا في الدنيا والآخرة، بل وسمح لهم أن يفعلوا في بعض المواقف ما هو أعظم ألف مرة من القيام، مثلما حدث في حديث المسور بن مخرمة (لما صدت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عليه الصلاة والسلام وهو حاضر يرى ويسمع، فقال: فما نزلت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة، إلا تلقفوها جميعاً، فما تقع في يد رجل حتى يدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون الصوت عنده) وهذا أعظم من القيام، ومع ذلك تركهم النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، وهذا من أعظم الغلو، ولكنه تركهم؛ لأن الموقف كان يستدعي ذلك.
جاء عروة بن مسعود مرسلاً من قريش يهدد النبي عليه الصلاة والسلام أنه إذا قامت بينه وبين قريش حرب أنه لا يثبت؛ لأنه ليس عنده رجال يثبتون لحرب قريش، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول له: هؤلاء الرجال الذين وصفهم عروة بن مسعود بالأوباش، وفي رواية البخاري (أوشاب)، قال: (ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك) وفي الرواية الأخرى: (ما أرى حولك إلا أوشاباً خليقاً أن يفروا ويدعوك).
أي: إذا قامت حرب لا يصمدون أمام قريش، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له: إن هؤلاء لا يخلون بيني وبين قريش أبداً، وتركهم يفعلون ذلك، فلذلك أول ما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا المنظر رجع إلى قريش وقدم هذا التقرير: قال لهم: (يا قوم! لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، ووالله ما توضأ فسقطت قطرة ماء على الأرض، ولا تنخم نخامة فوقعت في يد رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون الصوت عنده، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) اقبلوها؛ لأنه لا قبل لكم بهؤلاء، فالمنظر الذي رأيته أنا لا قبل لكم بهؤلاء، لأن العرب كانوا لا يملكون مع فارس ولا الروم لا يداً ولا لساناً، فهم ينهزمون دائماً أمام فارس والروم، فهو يمهد لهم بهذه المقالة.
قال: (ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، لقد وفدت على الملوك: كسرى وقيصر والنجاشي) الذين يغلبونكم دئماً، ومع ذلك ما رأيت ناساً يعظمون ملكهم أو سيدهم كتعظيم هؤلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم! ولذلك قبلت قريش الخطة مباشرة.
فكان هذا الترك مناسباً جداً؛ حتى يبلغ هذه الرسالة لقريش.
إذاً: فهمنا أن هذا له علة، فإذا خلت المسألة من العلة رجعنا إلى الأصل، وعملنا بسد الذريعة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحول بينهم وبين تعظيمه الذي يؤدي إلى تأليهه يوماً ما، وقد ظهر في المسلمين من أله غير النبي عليه الصلاة والسلام، لقد ألهوا علي بن أبي طالب كما في صحيح البخاري (أن جماعة قالوا: علي هو الله.
فطلبهم علي بن أبي طالب وحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت مكانه ما حرقتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يعذب بالنار إلا رب النار).
لكن ما سيفعل ابن عباس بهم؟ قال: (لقتلتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من بدل دينه فاقتلوه) فبلغت مقالة ابن عباس علي بن أبي طالب فقال: (يا ويح أمه!).
وإنما توجع علي بن أبي طالب لأحد أمرين: إما أنه توجع لأنه لم يكن عنده علم بالنهي وخالف النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يدري؛ فتوجع أن كان قضاؤه وحكمه على خلاف السنة.
أو أنه توجع أن ابن عباس حمل الأمر على التحريم وهو يراه على الكراهة فقط.