يذكر عن رجل كريم اسمه معن بن زائدة، يضرب به المثل في الكرم، أن أحد الشعراء أراد أن يقابله، وكان معن بن زائدة في بستان، فأبى البواب على الشاعر أن يدخل، فنظر الشاعر فوجد جدول ماء يمر من تحت الجدار إلى داخل البستان، فكتب الشاعر بيت شعر ونقشه على خشبة ووضعه على الماء، فحمله الماء إلى معن بن زائدة الذي كان جالساً عند الماء، فوجد الخشبة طافية على الماء، فأخذها فقرأها، فأعجب بالبيت جداً، فطلب الرجل، فقال: أنت الذي كتبت هذا؟ قال: نعم.
قال: كيف قلت؟ فأنشد له البيت، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم كان من الغد فأرسل إليه، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم أرسل إليه في اليوم الثالث فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار.
وعندما أخذ الشاعر الأربعة ألف دينار الثالثة هرب، فقد ظن أن هذا الرجل مجنون، وأنه سيفيق فيأخذ المال، فهرب من البلد كلها، فأرسل إليه في اليوم الرابع، فقيل له: إنه ولى الأدبار، فقال:(والله لقد أساء الظن، أما والله لو بقي لأعطيته مالي كله مقابل هذا البيت).
فهناك أناس مطبوعون على الكرم، وعندهم سجية العطاء، لا يستريح إلا إذا أعطى، وقيمة الإنسان في العطاء وليست في الأخذ، وانظر إلى هذه الأبيات الجميلة التي تكتب بالذهب التي قالها أمية بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان، يقول: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء أبيات في غاية الجمال، وفي غاية الرقة! يقول له:(أأذكر حاجتي) أي: هل أذكر أنني محتاج، أم يكفيني أنك تفهمها، (إذا أثنى عليك المرء يوماً)، يعني أول ما يقابله ويقول له: الله يحفظك، وجزاك الله خيراً، فعندما يقول له يعطي له المال، فلم يحوجه أن يريق ماء وجهه في السؤال يقول له: أنت تريد شيئاً، أو يقول: يا أخي! كن صريحاً، تريد كذا، ليس عندي مانع وهكذا.
فلا يحوجه إلى أن يريق ماء وجهه، فهذا الرجل أول ما يسمع الثناء فقط يعرف أنه رجل محتاج، فلا يحوجه إلى السؤال، فيقول له: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء وبهذا التخريج خرج الإمام الكبير العلم سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي، شيخ أحمد بن حنبل وشيخ الشافعي، حديث دعاء الكرب:(لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض وما بينهما ورب العرش الكريم).
فهذا ثناء، وليس دعاء، فلماذا سموه دعاء الكرب؟ عندما قيل لـ سفيان بن عيينة: إن هذا ليس دعاء، بل هو ثناء، قال: نعم، وأنشد هذين البيتين، وقال: إذا كان هذا مخلوق وكفاه الثناء فكيف بالخالق عز وجل.
فعندما تقول: لا إله إلا اله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم هذا ثناء على الله، وإذا كان العبد فهمها وعرفها، فكيف بالخالق عز وجل.
تقول هذه المرأة:(رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد)، ومن الأدلة على كرمه: أنه (قريب البيت من الناد)، الناد: هو منتدى الجلوس، فليس بيته في آخر البلد لأجل أن يفر من الضيفان؛ بل بيته بجانب النادي، وأي أحد يقصده على مدار الوقت، ومثل هذا عندما يكون البيت أقرب بيت للمسجد، ونريد أن نشرب ماء، فأقرب بيت هو الذي نقول له: هات لنا الماء، فهو يعرض نفسه لأقرب مكان لمنتدى الناس، كأنما قيل لها: ما دليل كرمه؟ فقالت: لأنه (قريب البيت من الناد).