للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نماذج من رحلة أصحاب الحديث]

ذكر ابن حبان في مقدمة كتاب المجروحين من طريق أبي الحارث الوراق، وهو متروك، لكن القصة وردت من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة، وذكرها كذلك الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية، وكذلك أبو موسى المديني.

يقول أبو الحارث الوراق: جلسنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، فعندما انتهى من الحديث كان شعبة خارجاً من الدار، فلطمه، وكان مع شعبة عبد الله بن إدريس، فقعد أبو الحارث الوراق نصر بن حماد يبكي، فقال: عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث.

لقد سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث -وسرد شعبة قصته مع هذا الحديث، وكان شعبة يحفظ ألوفاً مؤلفة من الأحاديث، فلو كانت عشرة آلاف فقط لعلمت مدى ما بذله شعبة في طلب الحديث وفي تصحيحه - قال: سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، فقلت له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ وشعبة سأل أبا إسحاق هذا السؤال لأن أبا إسحاق كان يدلس تدليس الإسناد، فخشي أن يكون أبو إسحاق قد دلس فيه.

والتدليس معناه: عمل شيء بالخفاء، ويعرفه العلماء فيقولون: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، مثلاً: أنا في عصر الإمام أحمد وأقول: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس، فأنت عندما تريد أن تحدث بهذا الحديث فتقول: حدثنا فلان، قال حدثنا سفيان عن الزهري عن أنس.

فإذا حصل لك شيء وسافرت، وحدثت بعشرة أحاديث في حال غيابك، وعندما عدت من سفرك أخبرك بها بعض إخوانك ممن حضر المجلس، فإذا حدثت بهذه الأحاديث العشرة عني مباشرة فستكون قد دخلت الدائرة الحمراء، فإما أن تكون كذاباً أو تكون مدلساً، فيجب عليك إذا أردت أن تحدث بهذه الأحاديث العشرة أن تقول: حدثنا فلان -أي زميلك- عن فلان -أي أنا- عن ابن عيينة عن الزهري عن أنس وبهذا تكون قد نزلت درجة في السند، والعلو هو أن تقلل عدد الوسائط بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا يسمى: تدليس الإسناد وهو أكثر أنواع التدليس دوراناً في الأسانيد، والذي يدلس يحدث بلفظ (عن)؛ لأن (عن) لفظة تحتمل السماع وعدمه، وهذا معنى قول المحدثين: (وقد عنعنه) أي: رواه بلفظ (عن).

المهم: أن أبا إسحاق السبيعي كان ممن يدلس تدليس الإسناد، وشعبة كان يكره التدليس جداً، وكان يقول: التدليس أخو الكذب.

وكان يقول: لأن أشرب من بول حمار حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس.

وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أدلس.

فلما سأل شعبة أبا إسحاق السبيعي وقال له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ غضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب، وكان يجلس مع أبي إسحاق السبيعي مسعر بن كدام، وهو أحد الأئمة الثقات الكبار الحفاظ، وكان أبو حاتم الرازي يقول عنه: مسعر المصحف، أي: أنه يحفظ الحديث كما يحفظ المصحف.

فقال مسعر: يا شعبة! إن عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة.

وهم حينئذ في البصرة، قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته: هل سمعت حديث الوضوء من عقبة بن عامر؟ فقال: لا.

إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم.

وهو مدني، فلقيت مالكاً في الحج، فقلت له: حج سعد بن إبراهيم؟ قال: ما حج العام، قال: فقضيت نسكي وتحللت وتحركت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.

ولكن حدثني زياد بن مخراق، من البصرة، فانحدرت إلى زياد وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: ليس من حاجتك، فقلت: لابد، فقال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك وتأتيني، قال: فذهبت إلى الحمام فغسلت ثيابي وأتيت، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.

حدثني شهر بن حوشب، فقلت له: شهر عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر.

هذا هو التدليس! فقد أصبح بين أبي إسحاق السبيعي وبين عقبة بن عامر أربعة رجال، فقال شعبة: حديثٌ صعد ثم نزل لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إليّ من أهلي ومالي.

لله در علماء الحديث والجرح والتعديل! ولا أستطيع أن أجد عبارة توفي حق علماء الحديث.

كان الإمام أبو زكريا يحيى بن معين يحدث يوماً، وعندما وصل في سند الحديث إلى الأعمش رأى أحد تلاميذه أخذ غفوة، فتابع ابن معين الحديث وأملى عشرة أحاديث، حتى وصل إلى الحديث العاشر وفي سنده ذكر الأعمش، فاستيقظ ذلك التلميذ وظن أنه لم يفته شيء من الحديث، فتابع كتابته من الأعمش، فاختلط عليه حديث في حديث آخر، وفاتته عشرة أحاديث، فعندما جاء هذا التلميذ يحدث قال له ابن معين: كذبت.

هذا الحديث ليس هذا سنده؛ لأنك كنت نائماً، وإذا لم تكن مصدقاً لما أقول فانظر إلى أصحابك فليس عندهم هذا الحديث عن الأعمش.

ومما يروى في ذلك: أن أبا نعيم الفضل بن دكين -وهو من الأئمة الحفاظ- كان من طريقته إذا جلس للتحديث: أن يقعد على كرسي يدور، وكان يجلس الإمام أحمد بن حنبل عن يمينه ويجلس يحيى بن معين عن يساره، فدفع يحيى بن معين مرة الفضول وقال: أريد أن أختبر الفضل هل هو حافظ ثبت أم لا؟ فقام يحيى بن معين فأتي بورقة وكتب فيها خمسين حديثاً، أربعون حديثاً من أحاديث الفضل وعشرة أحاديث ليست من أحاديثه.

فإذا قرأ: الفضل رحمه الله هذه الأحاديث ولم يميز بين حديثه وحديث غيره، فدرجة الحافظ لا تنطبق عليه، أي: فهو (سيئ الحفظ).

فعرض يحيى بن معين الفكرة هذه على أحمد بن حنبل، فقال له أحمد: لا تفعل، فإن الرجل ضابط حافظ، فقال له: لا بد أن أعملها، وأخذ يحيى بن معين الورقة وأعطاها لأحد العلماء واسمه أحمد بن منصور الرمادي، وكان أحمد بن منصور يجلس مع الطلبة، فلما خف المجلس قليلاً قام أحمد بن منصور الرمادي وأعطى الورقة للفضل، فنظر فيها الفضل وجعلت عيناه تدوران، ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي بعد أن أعطاه الورقة، (أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل هذا؛ وليس هذا إلا من عمل هذا)، قال: ثم أخرج رجله ورفس يحيى بن معين فألقاه على الأرض، وقال: تعمل هذا عليَّ؟ قال: فقام يحيى وقبل جبينه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، ووالله لرفستك أحب إليَّ من رحلتي.

أي: لو لم يخرج من هذه الرحلة إلا بهذه الرفسة لكان قد حصّل شيئاً كثيراً.

وشعبة بن الحجاج كان أشد رجل يعادي المدلسين، وكان يقول: (لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس).

وهذا الكلام خرج مخرج الزجر والتنفير، لأنه لو عرض عليه الزنا والتدليس فلن يزني.

وقول الله عز وجل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:٤٠]، مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:٧] وأنت عندما تقول لابنك محذراً: العب، أنت حر! فهل معنى هذا أنك أبحت له اللعب؟ لا.

والرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء إليه النعمان بن بشير وأراد أن يخص أحد أولاده بعطية، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (أشهد على هذا غيري)، فلو ذهب إلى أبي بكر فهل ستنفعه تلك الشهادة؟ لا.

إذاً هذا خرج مخرج الزجر.

فهو يقول: (لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس).

فـ شعبة يعلم أن أبا إسحاق يدلس، فقال له: أسمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ فغضب أبو إسحاق.

ومن غضبه تعرف أنه دلس، فقد أسقط أربعة من السند وكان يجالس أبا إسحاق السبيعي.

مسعر بن كدام فقال: (يا شعبة! عبد الله بن عطاء حي بمكة.

أي: إذا أردت التأكد فارحل إليه.

قال شعبة: فخرجت من بلدي إلى الحج لا أريد إلا الحديث.

خرج شعبة إلى الحج يريد أن يلقى عبد الله بن عطاء من أجل أن يسأله، هل سمع الحديث من عقبة بن عامر أم لا؟ قال شعبة: فدخلت على عبد الله بن عطاء في مكة فإذا هو رجلٌ شاب، وقلت له: حديث الوضوء هل سمعته من عقبة