[البذل للمحبوب]
ومن علامات محبتك: بذلك لمحبوبك، وهذا فرع من العلامة الكبرى التي بدأنا الكلام عنها.
واعلم أن الحب بذل وعطاء وليس أخذاً، كل الناس يأخذ والأخذ أسهل ما يكون، إنما الحب عطاء وبذل، ألم تسمع إلى الله عز وجل وهو يعلم الصحابة فيقول لهم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:٦] هذا هو الحب، فمن هان عليه أن يبذل نفسه في الله هان عليه أن يبذل ماله من باب أولى، ولذلك لم يتقدم أحد أبا بكر في هذا الحب، كان يكثر أن يقول: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله!) أي: أفديك بأبي وأمي، ومن باب أولى (أفديك بنفسي).
وكما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: (إن عبداً خيَّره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، قال أبو سعيد: فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! قال: فعجبنا من هذا الشيء) ما الذي يبكيه؟!! والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال شيئاً سوى: (أن عبداً خيَّره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده،) قال أبو سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر.
ولما غضبت فاطمة رضي الله عنها منه؛ لأنه لم يعطها شيئاً من ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، فالتقيا مرة فقالت: يا أبا بكر! أتصل قرابتك ويرثونك ولا يرث محمداً أهله؟ فقال لها: والله لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من أن أصل قرابتي.
ولما جاء والد أبي بكر مسلماً يوم الفتح وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بكى أبو بكر، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا أبا بكر؟! قال: والله لأن تكون هذه يد عمك أحب إليَّ من أن تكون يد أبي) لأن يكون عمك أسلم وتقر عينك أحب إليَّ من أن يكون أبي هو الذي أسلم.
هذا هو الحب، لم يتقدمه أحد على الإطلاق، ولذلك استحق هذه الشهادة: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، واستحق أيضاً هذه الشهادة: (ما منكم من أحدٍ له عليَّ يدٌ إلا وفيته بها غير أبي بكر فله عليَّ يد يجزيه الله بها)، واستحق أيضاً شهادات أخرى؛ منها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الصحابة إلى بذل أموالهم لله عز وجل -وكان أبو بكر سبَّاقاً لا يُلحق غبار جواد جوده في الله عز وجل- فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر، فذهب إلى بيته وأحضر مالاً عظيماً وجاء ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت لأهلك يا عمر؟! قال: تركت مثله، وجاء أبو بكر ومعه مال عظيم فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله ورسوله، فأتى بماله كله، فقال عمر: لا جرم، لا أسابقك بعد اليوم أبداً) ألم أقل لكم: لا يُلحق غبار جواد جوده في الله فضلاً عن أن يُلحق هو؟ وإنما كان ذلك بتمام المحبة.
الذي يبذل نفسه لله عز وجل لا يستصعب أن يبذل ماله وما دون ذلك، ولذلك قال صرمة بن قيس وهو يترجم شعور الصحابة وموقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثوى في قريش بضع عشرة حجةً يذّكر لو يلقى حبيباً مواسيا ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم يرَ داعيا فلما أتانا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بطيبة راضيا وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم بعيد ولا يخشى من الناس عاديا بذلنا له الأموال من حِلِّ مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المصافيا ونعلم أن الله لا رب غيره وأن رسول الله أصبح هاديا وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لقد سمعت من المقداد بن الأسود كلمات لأن أكون أنا الذي قلتها أحب إليَّ من حمر النعم، سمعت المقداد بن الأسود يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لو خضت بنا هذا البحر خضناه معك، والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] قال: فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُرَّ بما قال) يقول ابن مسعود: لأن أكون أنا الذي قلت؛ لأن الرسول سُرَّ بذلك، وهكذا كانوا يتسابقون في رضاه.
البذل -أيها الإخوة الكرام- يكون على ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى: أن يبذل كارهاً بمشقة، وهذا يكون في ابتداء الأمر قبل استحكام المحبة.
المرحلة الثانية: إذا تخللت المحبة شغاف قلبه بذل راضياً طائعاً.
المرحلة الثالثة: إذا استحكمت المحبة أكثر بذل سؤالاً وتضرعاً.
تأمل هذه المراحل، يبذل بمشقة، ثم يبذل راضياً طائعاً، ثم يبذل سائلاً متضرعاً، هو الذي يسأل أن يبذل، فإذا قبلت بذله شكرك؛ لأنك قبلت بذله، كما كان بعض السلف يفعل: يخرج بصدقته فإذا وافى فقيراً أو مسكيناً مستحقاً وأعطاه الزكاة فقبلها المسكين صافحه وشكره، فيتعجب المسكين ويقول: أنا أولى أن أشكرك، فيقول له: لا.
بل أنا أولى أن أشكرك! لأنك الذي سقت الأجر إليَّ بقبولك الصدقة.
فيعطي المال ويشكر الآخذ؛ لأنه هو الذي أتاح له القربى والزلفى من الله عز وجل، أتظن أن الذي يبذل ماله سؤالاً وتضرعاً يبذله رياءً وسمعة؟!! لا.
لا يبذله رياءً وسمعة، وكذلك كان الصحابة يبذلون لله عز وجل مهجهم سؤالاً وتضرعاً.
في غزوة أحد جاء عمرو بن الجموح وكان رجلاً أعرج، شديد العرج، وقد أسقط الله عز وجل عنه فريضة الجهاد هو والأعمى والمريض فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:٦١] فجاء هذا الأعرج شديد العرج يشكو أبناءه، فهل يشكو من العقوق أو أنهم ضربوه أو أنهم حبسوا أموالهم عنه؟ هذا لم يكن يخطر لأبناء الصحابة على بال، أما الآن فإنك تجد أماً مات زوجها وتعبت على تربية ابنيها وأتعبت نفسها لأجلهما، وبعد أن بلغ أحدهما خمسة وعشرين سنة يقول للآخر: هيا نضرب أمنا ضرباً شديداً، فيأخذ كل منهما عصاً ويضربون أمهم، هل رأيت هذا في العالمين؟!! أو خطر ببالك في باب العقوق أن يستلذ ولد بضرب أمه؟!! إننا لا نبرئ الآباء من هذه المحن؛ لأنهم السبب في ذلك، وقلت لكم: إن محنة إهمال الأولاد مؤجلة، ولا يظهر هذا إلا بعد أن يستوي عود الولد.
جاء عمرو بن الجموح يشكو أبناءه؛ لأنهم يمنعونه من الجهاد ويقولون: يا أبانا! إن الله عز وجل قد وضع عنك الجهاد، ونحن ستة من أبنائك نقاتل في سبيل الله دونك ألا تقر عينك؟! فيقول لهم: إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فلا تحولوا بيني وبينها، ويبكي ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكياً، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه، لعل الله عز وجل أن يرزقه شهادة) وتدور رحى الحرب ويكون عمرو في أوائل من قتل، وهذا شيء طبيعي، فهو لا يحسن الكر ولا الفر، ولو أراد ذلك ما استطاع لعرجته، فلما جاء موعد الدفن، وكان يقدم في اللحد أكثرهم قرآناً، وهكذا يُعِز القرآن أهله في الدنيا والآخرة حتى عند الدفن، إذا دفن ميتان في قبر واحد فالسنة أن يقدم في اللحد أكثرهم قرآناً، لا يتقدم صاحبَ القرآن العامل به، الواقف على حدود الله عز وجل، المعظم لكلمات الله تبارك وتعالى أحدٌ لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلما جاء موعد الدفن كان للمحبة شأن في الدفن، فقال صلى الله عليه وسلم: (ادفنوا عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام في قبر واحد -لماذا؟ - قال: ادفنوا هذين المتحابين في قبر واحد) حتى الحب يُستصحب ويراعى دفن الميت، مع من كان يحب في الدنيا.
وهكذا يفرق الله عز وجل بدينه بين الناس في الدنيا والآخرة، فلا يجمع بين كافر ومؤمن في الدنيا والآخرة، لا في بيت ولا في مال ولا في قبر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين)، وقال: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) فلو أن رجلاً يسب دين الله عز وجل ثم مات على ذلك ولم يتب، فهذا كافر، ولو كان له مليارات وأبناؤه فقراء لا يحل لهم أن يأخذوا درهماً واحداً من هذا المال؛ لأنه لا يسوغ لك أن تباينه في الدنيا، ثم تأخذ ماله بعدما مات، إن صدق المحبة يستلزم أن تتبرأ من كل شيء هو فيه، ولا تجري وراء مصلحتك ولا تجري وراء ما يفيدك.
كم أوذي المؤمنون من الكافرين في الدنيا بسبب إيمانهم ومع ذلك لم يتركوا الإيمان، فلو ساغ للمؤمنين أن يتزلفوا إلى الكافرين أو ينتفعوا من ورائهم بشيء لهادنوهم؛ حتى يعيشوا وحتى لا يخرجوا من ديارهم وأموالهم، فلذلك قال لك: لا تأخذ المال؛ لأن هذا برهان وعلامة صدق الحب.
من علامات صدق الحب: أن تكره كل شيء من الكافر ولو كان يسرك أو ينفعك، هذه من علامات صدق المحبة.
وكذلك البذل لله عز وجل لا يجوز تلطيخه بشيء من الدنيا، وبذلك يظهر لك لماذا أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر إلا أن يدفع له ثمن الراحلة، كما في صحيح البخاري: (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر وأعلم أبا بكر أنه سيؤذن له في الهجرة اشترى أبو بكر راحلتين وحبسهما يعلفهما انتظاراً لذلك اليوم، فلما أذن الله عز وجل لنبيه بالهجرة وجاء النب