[تحريم الكذب وبيان أنه من أعظم الذنوب]
ماذا فعل هرقل ذلك الداهية -كما وصفه أبو سفيان - قبل أن يسأل أبا سفيان؟ قال له: اجلس.
وأجلس أصحابه خلف ظهره، وقال للترجمان: قل لهم إني سائله، فإن كذبني فكذبوه.
قال أبو سفيان: ولولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه.
انظر إلى الترفع عن الدنايا، مع أن الذي منعه عن الكذب ليس هو الإيمان، وليس هو الخوف من الله عز وجل، وإنما الخوف من أن يتهم بالكذب، والكذب ما أباحه الله قط إلا أنواعاً معينة أباحها بضوابط معينة، لكن مطلق الكذب ما كان مباحاً أبداً.
ولذلك يقول سفيان بن عيينة -وهذا الكلام صحيح، رواه الإمام النسائي، ليس في السنن ولكن في جزء له، جزء حديثي- قال سفيان: كل ذنب جعلت فيه الكفارة فهو من أيسر الذنوب، وكل ذنب لم تجعل فيه الكفارة فهو من أعظم الذنوب؛ لذلك لم يجعل الله للكذب كفارة؛ لأنه إذا أمرك بكفارة وأديتها يسقط الذنب.
ومن الأدلة على ذلك: قصة الغامدية التي زنت ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها الحد، فرجمها النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يصلي عليها، فامتنع عمر، ووقف أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تنح عني يا عمر، فوالله لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).
كيف وقد جادت بنفسها لله عز وجل؟ والرجم إنما هو كفارة لهذا الذنب، فالمرأة لقيت الله عز وجل ولا شيء عليها، بل إن توبتها تسع سبعين من أهل المدينة ونحن نعلم أن أهل المدينة كانوا كلهم صحابة، فلو قسمت توبتها على سبعين صحابي لوسعتهم.
أما إذا كان الذنب عظيماً فالله تبارك وتعالى لا يجعل فيه كفارة، كقتل المؤمن، فإن الله ما جعل في قتل المؤمن عمداً كفارة، لذلك احتج بعض العلماء بترك الكفارة في قتل المؤمن -قتل العمد- على أن القاتل -قاتل المؤمن عمداً- لا توبة له، قال: لأنه لو كانت له توبة لأذن له بكفارة كما أذن لقاتل المؤمن خطأً.
فالكذب هذا لم تجعل فيه الكفارة؛ لأنه من أعظم الذنوب، وهو قبيح في ذاته، لذلك فالكذب عند العلماء من المحرمات لذاتها.
المحرمات قسمان: قسم محرم لذاته، وقسم محرم لغيره.
المحرم لذاته: أي لما يشتمل عليه من القبح في ذاته، كالقتل، وكالشرك بالله، والكذب، والزنا؛ لأنها قبيحة في ذاتها، فهي حرام.
حرام لغيره: أي أنه في الأصل مباح، لكن اقترن به صفة نقلته من الحل إلى الحرمة، فمثلاً: الصلاة فريضة، لكن الصلاة على الأرض المغصوبة باطلة على رأي الحنابلة، ومكروه على رأي الباقين.
فنقول: إذا رأيت شخصاً يصلي على أرض غصبها من إنسان حتى لو أخذ أرض الإنسان وبنى عليها مسجداً، فإن الصلاة فيه تكون كالصلاة على الأرض المغصوبة، فلا يمكن أن يأتي أحد ويقول: كيف تكون الصلاة باطلة وهو إنما صلى في المسجد؟ فنقول: لا.
المسألة ليست كذلك، فالصلاة صحيحة في نفسها سواء كانت فريضة أو مستحبة، لكن لما اقترنت صلاته بالصلاة على الأرض المغصوبة كانت حراماً.
ومثل ذلك: الذي يبيع العنب لمن يجعلونه خمراً، فيكون هذا البيع حراماً، مع أن بيع العنب في الأصل حلال، لكن لما باعه لمن يجعلونه خمراً أصبح هذا البيع محرماً.
وكذلك الصلاة في الثوب المغصوب، كأن يسرق أحد ثياباً ثم يلبسها ويصلي بها، فهذه حكمها حكم الأرض المغصوبة، ومن الفقهاء من يقول: لا يجوز له أن يصلي في الثوب المغصوب، وإنما يصلي عرياناً.
لأن الله تبارك وتعالى قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦] وهو لا يستطيع أن يواري عورته، فيصلي حسب ظروفه، أما أن يسرق الثوب أو يغصبه حتى يصلي فيه فهذا لا يجوز.
إذاً: فالكذب لا سيما على الله ورسوله محرم لذاته، ومع ذلك فالذي جعل أبا سفيان لا يكذب إنما هو الترفع، وفي رواية ابن إسحاق قال أبو سفيان: (قد كنت سيداً مطاعاً في قومي، فأنفت أن أُنسب إلى كذب).
هي هذه مقتضى الرئاسة، ولذلك كان من أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة: ملك كذاب.
لماذا يكذب وهو ملك؟ ما كذب إلا لأنه في نفسه كذاب، مستمرئ للكذب حتى أن الكذب أصبح كالصفة الجبلية فيه، لذلك كان من أشد الناس عذاباً يوم القيامة.
فأنفة أبي سفيان وترفعه عن الدنايا جعله لا يكذب.
وفي بعض الروايات أنه قال: ولو كذبت ما كذبوني، لماذا؟ لسببين: السبب الأول: أن أبا سفيان هو الملك المطاع فيهم، ولا يعقل أن يُرد عليه في مثل هذا المجلس العلني.
السبب الثاني وهو الأهم: لأنهم يريدونه أن يكذب؛ لأنهم هم أيضاً يعادون الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمن مصلحة هؤلاء أنهم أيضاً يكذبوه، ولذلك قال أبو سفيان: لو كذبت ما كذبوني.