[ترك الأسباب قدح في الشريعة]
(وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع)، فلو أن كل رجل قال: أنا لن أتزوج! فمن يعمر الأرض ويقيم الدنيا ويقيم الصناعات ويقيم الجهاد بعد ذهاب هذا الجيل، لابد من نسل، فمن تجده يقول: إذا قدر الله عز وجل لي الولد فسأرزق الولد بلا زوجة، كل العقلاء يحكمون عليه بالحمق، فطلب الولد بلا زواج حمق، وطلب دفع الجوع بلا أكل حمق، كذلك طلب الجنة بلا سعي حمق.
وتجد التناقض في حياة الناس، فمنهم من تجده لا يصلي ولا يزكي، ويقول لك: أنا قلبي أبيض مثل اللبن مع أن هناك أناساً يصلون وعندهم حقد وحسد، ماذا عملوا بالصلاة؟ لكن أنا لا أصلي ولا أزكي لكن قلبي أبيض ولا يفعل شيئاً، هذا في جانب الهدى.
لكن لو سألته: لماذا تعقد صفقات كل يوم؟ ولماذا تسافر إلى الخارج؟ لماذا لا تجلس في بيتك وتضع رجلاً على رجل، ولو أراد الله لك الغنى لأغناك بلا تجارة وبلا سعي، إذا قلت له هذه العبارة ينكرها عليك، وإذا قلت له: لماذا تذهب إلى البيت؟ قال: لآكل لأني إن لم آكل سأموت من الجوع، لا لن تموت من الجوع إذا كتب الله لك الحياة بغير أكل طيلة عمرك ستعيش.
فما بالهم في مسائل الهداية يهونون منها ولا يعملون، ويعتمدون على القدر، وفي مسائل الدنيا يسلكون كل سبيل ويبحثون عن كل سبب مهما كان السبب محرماً، حتى إنك تجد بعض الشباب يذهب إلى بلاد أوروبا ليعمل، تقول له: ماذا تعمل في أوروبا؟ يقول لك: أغسل الصحون في مطعم، لكن لو سألته: كيف تغسل الصحون من بقايا الخنزير وكئوس الخمر؟! وهل خطر ببالك أن تغسل طبق أكلك في بيتك؟ أبداً، هو يأكل ويترك الأطباق، وما خطر بباله أن يأخذ هذا الطبق ويذهب به إلى المطبخ ليغسله.
وبعض الناس تجد أنه يسعى في معصية الله عز وجل، فتقول له: لماذا تسعى في معصية الله عز وجل؟ يقول لك: والله أنا بحثت عن عمل فلم أجد، وقد أغلقت الأبواب في وجهي، ويأتي لك بألف عذر حتى يسلك هذا السبب الذي هو في معصية الله عز وجل.
عندنا في مصر جماعة مبتدعة اسمها الفرماوية، هذه الجماعة تنسب إلى الشيخ الفرماوي الذي هو قائد الجماعة، يقولون: إن البخاري شيوعي، لأن منطقة بخارى هي تابعه للاتحاد السوفيتي سابقاً، وفي عيدهم يحرقون فتح الباري شرح صحيح البخاري لـ ابن حجر العسقلاني؛ لأنهم يكرهون البخاري، وكل الأحاديث التي وردت من طريق عائشة أو أم سلمة رضي الله عنهما ينكرونها، وأي امرأة لها حديث ينكرونه بحجة أن صوت المرأة عورة، كأن الله خلق المرأة خرساء لا تتكلم، وهذا خطأ، صوت المرأة ليس بعورة، إلا إذا كان هناك خضوع في القول أي: ترقيق الصوت ونحو ذلك، وقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:٣٢].
حتى إن بعض الدعاة الذين يسلكون مسالك الاحتياط؛ يقولون: إذا كانت المرأة صوتها ناعم وتتكلم في التلفون فعليها أن تخشن صوتها كالرجل، فنقول: لا داعي لمثل هذا الاحتياط، ونقول: إذا خلقها الله تبارك وتعالى بهذا الصوت فلتتكلم على سجيتها، لكن لا تخضع بالقول، إذ أن الله عز وجل خلقها هكذا، فلا داعي لمسألة تفخيم الصوت ولا دليل عليه إطلاقاً.
وهذه الجماعة تعتقد أن العمل شرك، وأن سلوك الأسباب يعتبر شركاً، وكأنك -أخذك بالأسباب- تتهم الله عز وجل أنه خلقك وضيعك، كونك تشتغل تكون قد اتهمت ربك ولسان حالك يقول: يا رب! أنت ما أنفقت عليَّ.
إذاً: هذا اتهام لله عز وجل، وحتى تجرد التوحيد فإنك لا تعمل.
ومن العجيب أن أفراد هذه الجماعة يلبسون ثياباً على لونين، تجد منهم من يلبس ثياباً خضراً، وآخرون يلبسون ثياباً بيضاً، الذي يلبس ثوباً أخضر يكون المصحف الذي يقرأ فيه جلدته خضراء، والذي يلبس ثوباً أبيض، تكون جلدة مصحفه (بيج) أو نحو ذلك، وقد كنا في المعسكر أول ما يقومون من النوم يلعبون الرياضة ويجرون، وعندما يأتي واحد منهم يسأل عنهم، يقوم الرجل منهم يلف نفسه ببطانية وبعد ذلك يكلم صاحبه، فيقول له صاحبه: لماذا أنت لافف نفسك بالبطانية؟ يقول: الآن استيقظت من النوم، وتجده يحذرنا ويقول: أرجوكم يا جماعة! لا يقل أحدكم أنني ألعب رياضة؛ لأن الرياضة من الأسباب، لأنهم سوف يكفرونه بذلك، يقولون له: أنت تبذل سبباً تقوي به جسمك، فيخشى أنهم -بذلك- يشكون فيه فيقدحون في توحيده.
فأنا أسأله أقول له: يا فلان! أنتم تقولون بالأسباب ولا تجوزون الأخذ بها، ومع ذلك أنت خياط تخيط ثياب في بلدك، وهذه الخياطة أليست سبباً؟ قال: نعم، لكن أنا أشتغل وأصرف على الذين وصلوا إلى القمة مثل (البشوات)، نحن إيماننا ناقص، فنصرف عليهم، فصاحب الإيمان الكامل يلبس ثوباً أبيض، وصاحب الإيمان الناقص يلبس ثوباً أخضر، إذاً: الثوب الأخضر للذين يشتغلون لتأكيل الكبار.
ولو سألت صاحب الثوب الأبيض: أنت لماذا تحفظ القرآن؟ لقال لك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) قلت له: أليس الحفظ سبباً؟ ولماذا لم تترك القرآن ولو شاء الله عز وجل لصب القرآن في صدرك صباً؟ فإذا به يسكت ولا يجيب؛ لأنه خالف البدهيات التي لا يمكن لأحد أن ينكرها في حال من الأحوال وهو ما يراه في حياته العادية.
وخذ مثلاً: مفتاح الكهرباء لو ظللت مائة عام واقفاً لأجل أن يضيء لا يضيء حتى تضغط عليه.
فالمقصود من العبد أن يفعل السبب، وأن يكون مجداً في طلب الهدى كما هو مجد في إصلاح حياته وأمره، ولذلك قال العلماء هذه المقالة الجامعة: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد) فمهما كان السبب قوياً، ومهما كانت الآلة صحيحة؛ اعلم أنك قد لا تحصل ما تنشده إلا إذا قدره الله تبارك وتعالى لك.
(وترك الأسباب بالكلية والانخلاع منها قدح في التشريع) لأن هذا سيؤدي بنا إلى ترك كل الحدود، وستكون المسألة في غاية الفوضى بين العباد.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.