للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أساليب أهل الضلال: التجافي عن الدنيا والزهد فيها]

فتجدهم أئمة زهاداً، والكثير من الناس يحب هذا الصنف ويعجب به، ومن أكثر ما يشوه صورة الداعية إلى الحق أن يكون رجلاً مادياً؛ ولذلك جاءت الرسل لتقول لأقوامهم: (ما نسألكم عليه أجراً)، حتى لا يظن ظان أن هؤلاء منتفعون، فقالوا: نحن نبذل الهدى مجاناً فخذوه بغير نوال، وكثير من الناس يستدلون على صدق الدجالين والسحرة بأنهم لا يأخذون مالاً ويعالجون الناس بلا مقابل.

إذاً: أخذ نوالٍ على الحق من أعظم المضرات؛ لذلك ينبغي على الدعاة إلى الله أن يتعففوا عما في أيدي الناس ويرفضوها رفضاً قاطعاً، وهناك من الناس من يعطي باسم الهدية، ويعطي الداعية لينظر أيأخذ هذه الهدية أم لا، ويقول له: الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهدية، وهذا بابٌ شائع ربما يلتبس على بعض الناس، أن يقبل الهدية ويكون هذا شركاً ومصيدة أراد بعض الناس امتحانه بها.

ومما يروى في زهد أهل البدع أن رأساً من رءوس الضلال اسمه: عمرو بن عبيد -كان رأساً في التجهم والاعتزال- كان زاهداً جداً، حتى إن الخليفة المنصور كان إذا رآه يقول: كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد سلب لب الخليفة بتركه للدنيا وزهده فيها، (كلكم طالب صيد) أي رجل يدخل على الخليفة فهو يريد المال.

فـ أبو دلامة الشاعر مثلاً كان يلازم الخليفة بصفةٍ دائمة، لأنه رجلٌ نفعي يريد المال.

فخرج مرة هو والخليفة المهدي ورئيس الوزراء علي بن سليمان للصيد كما ذكره الخطيب البغدادي في كتاب: تاريخ بغداد، فاصطاد المهدي ضبياً، وضرب علي بن سليمان بالسهم فاصطاد كلباً، فقال له الخليفة: قل لنا في هذا المعنى شيئاً، فأنشد على البديهة يقول: قد رمى المهدي ضبياً شق بالسهم فؤاده وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده فهنيئاً لهما كل امرئٍ يأكل زاده فأعطاه الخليفة ثلاثين ألف درهماً، كل بيت بعشرة آلاف درهم، فلما رجعوا من الرحلة قال له: يا أبا دلامة! قال: لبيك! قال: اهج أحدنا -وكانوا ثلاثة، الأمير ورئيس الوزراء وأبو دلامة نفسه- فوجد أن أخف الأضرار كلها أن يكون هو المهجو، فهو لا يستطيع أن يهجو الخلفية المهدي، ولا رئيس الوزراء؛ فأنشد على البديهة يقول: ألا أبلغ لديك أبا دلامة فلست من الكرام ولا كرامة إذا لبس العمامة صار قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامة فأعطاه عشرين ألف درهماً، فخرج أبو دلامة من هذه الرحلة بخمسين ألف درهم.

لقد كان أصحاب الأمراء يرجون النوال؛ ولذلك شدد سفيان الثوري وقال: إذا رأيت العالم يذهب إلى الأمير فاعلم أنه لص.

وقال: إذا دعاك الأمير لتقرأ عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] فلا تذهب.

وكان يقول: إنك لن تأخذ من دنياهم شيئاً إلا أخذوا من دينك ما هو أفضل، فيريد أن يعطيك مالاً ثم يرتكب مخالفة وأنت في مجلسه فتستحيي أن تقول له: هذا لا يجوز؟!! ولذلك كان ابن أبي ذئب أقوم بالحق من مالك في حضرة السلطان، كما قال الإمام أحمد بن حنبل، فهذه شهادة أحمد لما سئل عن مالك وابن أبي ذئب، قال: ابن أبي ذئب قوامٌ بالحق قوال، دخل على أبي جعفر المنصور وقال له: إن الظلم فاش ببابك وأبو جعفر رجل ظالم، لا أحد يستطيع أن يراجعه، لكن ابن أبي ذئب كان قوالاً بالحق في حضرة السلطان، وهذه المسألة مختلف فيها بين علماء السلف، وضابط المسألة: مراعاة المصلحة، فمن علماء السلف من قال: لو كان لي دعوةٌ صالحة لادخرتها للسلطان؛ لأن صلاح الناس بصلاحه، ومنهم من كان يقول: لا تذهب إليه؛ حتى لا يفتن في دينه ويداهنه في أمور لا تجوز حياءً منه، وهذا هو مذهب زهاد أهل السنة، لكن أهل البدع يظهرون الزهد ليتمكنوا من قلوب الناس، كما كان حال عمرو بن عبيد فقد كان المنصور يقول: (كلكم طالب صيد) يعني: كل واحد يقترب مني يريد شيئاً، (كلكم يمشي رويد): ورويد معناها: يمشي على مهل، مثل الصياد، فأي إنسان يصطاد لا تجده يمشي بسرعة وإنما يتلفت وينظر، يبحث عن فريسة.

(غير عمرو بن عبيد) فهذا الرجل سلب لب المنصور بتجافيه عن دار الغرور.