[صور من اتباع الصحابة رضوان الله عليهم]
كان الصحابة رضوان الله عليهم من أشد الناس مبادرة إلى تنفيذ أمر الله ورسوله، ونحن في حاجة ماسة إلى الاطلاع على حياة الصحابة، كيف كانوا يتبعون القول بالعمل، ويفسرون الأقوال بالأعمال والمبادرة إلى تنفيذ الأمر.
وقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة باتباعهم وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في صلح الحديبية، قال: (فجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ، فوالله ما سقطت قطرة ماء على الأرض إلا كادوا يقتتلون على وضوئه عليه الصلاة والسلام، وما تنخم نخامة إلا استبقوا عليها، فما تقع في يد رجل إلا دلك بها وجه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون أصواتهم عنده، ويبتدرون أمره) لذلك ثبتت لهم البشارة فقال الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:٨].
وليست الأولى بأفضل من الثانية، بل الشرف لهم أن يرضوا عن الله، ليس الشرف أن يرضى الله عنهم فحسب، إذ لو سخط الخلق جميعاً على الله لا يضره ذلك، لكن الشرف لهم أن يقول الله لهم: (أنتم رضيتم عني) فهذا هو الشرف، وما نالوا هذا الشرف ولا حازوا هذا السبق إلا بالمبادرة إلى تنفيذ أمره ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفتدونه بكل غال ونفيس، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر يوماً على أجمة -مكان فيه أشجار كثيرة- وكان يقبع في هذه الأشجار عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، فلما مر النبي عليه الصلاة والسلام قال عبد الله بن أبي بن سلول: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة، يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبو كبشة: جد الرسول عليه الصلاة والسلام لأمه، جد غامض غير معروف، وقد كانت العرب إذا أرادت أن تنتقص رجلاً نسبته إلى جد غامض، حيث أن الجد المشهور يكون الانتساب إليه شرف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) فالنسبة لـ عبد المطلب تعتبر شرفاً؛ لأنه رجل معروف ومشهور وله مكانة في الناس، لكن أبا كبشة لا يعرف في الناس.
فهو يريد أن يحتقر الرسول عليه الصلاة والسلام ويشتمه، فسمع هذه الكلمة من عبد الله بن أبي بن سلول ابنه عبد الله، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والذي أكرمك، والذي أنزل عليك الكتاب لأن أمرتني لآتينك بعنقه -الولاء للرسول عليه الصلاة والسلام قبل الولاء للآباء والأبناء- فقال له: لا.
ولكن بر أباك وأحسن صحبته).
وعندما قامت معركة بدر بين المسلمين والكافرين، كان هناك ابن لـ أبي بكر لم يكن أسلم آنذاك، وكان في صفوف الكافرين، وكان يرى أباه أبا بكر رضي الله عنه فينخلس بعيداً عنه، فلما أسلم الولد قال لأبيه: لقد كنت أراك يوم بدر، فكنت أخشى أن يسبق سيفي إليك، فقال أبو بكر: والله لو رأيتك لقتلتك.
وهذا هو الفارق الجوهري ما بيننا وبين الجيل الأول.
فالمتابعة: ألا تحرك ساكناً، ولا تسكن متحركاً إلا بإذن، ولله در سفيان الثوري لما قال: إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.
نحن مبتلون بأننا نفعل الفعل، فإذا وقعنا في ورطة طلبنا الحكم الشرع وسألنا عنه، والأصل أن يسأل قبل أن يفعل: أهو جائز أم لا، مشروع أم لا.
لقد كان اتباع الجيل الأول: لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام في غاية الروعة.
من ذلك ما جاء في حديث جرير بن عبد الله أنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم)، فطبق جرير هذا الحديث على تصرفه الشخصي -لا تحفظ النص ثم لا تعمل به فيكون حجة عليك، فالجهل به خير من معرفته ومخالفته، وليست هذه دعوة إلى الجهل، لكن الرجل الذي يعلم ويخالف شر من الذي لا يعلم، فالذي لا يعلم قد يكون له عذر مقبول، أما الذي يعلم ثم يخالف ليس له عذر- (فأرسل جرير رضي الله عنه غلامه ليشتري له فرساً، فوجد الغلام الفرس بثلاثمائة درهم، وجاء الغلام بصاحب الفرس ومعه الفرس إلى جرير ليقبضه الثمن، فلما رأى جرير الفرس وجده يستحق أكثر من ثلاثمائة، فقال: يا فلان! فرسك يستحق أربعمائة.
قال: قبلت.
قال: خمسمائة.
قال: قبلت.
قال: ستمائة.
قال: قبلت حتى وصل به إلى ثمانمائة فقال الرجل: قبلت.
فأعطاه الثمانمائة فتعجب الغلام، إذ التجارة شطارة، وكلما أخذت البضاعة بسعر أقل اعتبر الناس من المكسب العاجل، والحلال المباح؛ وقال لـ جرير: ما هذا الذي فعلت؟ قال له: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
أي: لا أستطيع الغش، وهذه هي كمال المتابعة.
أن تتابع بالفعل.
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلبس خاتم ذهب، فلما رآه أخذه منه ونزعه نزعاً شديداً، ورماه في الأرض وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده! فلما قام الرجل ينصرف وقد ترك الخاتم على الأرض، قيل له: خذه فبعه وانتفع بثمنه.
قال: كيف آخذه وقد طرحه رسول الله؟!) وترك الخاتم.
وذهب بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! عظنا وأوصنا.
قال: لا تسألوا الناس شيئاً) فكان الواحد منهم يكون راكباً على فرسه فيسقط سوطه، فلا يقول: يا فلان! ناولني السوط.
فامتثلوا؛ ولذلك عز وسادوا.
ولكن إذا نظرت إلى الأجيال الخالفة كما في وقتنا تجد بينهم وبين المتابعة بوناً شاسعاً، بل لا يتورعون عن فعل المحرمات.
وقد جمعني مجلس برجل يدخن، فقلت له: يا فلان! إن التدخين حرام.
فأخذ نفساً عميقاً، ثم قال لي: يعني: ليس مكروهاً؟! فهب أنه مكروه، ألا يكفي فيه أن الله ورسوله يكرهان هذا الشيء؟! فكيف طابت نفسك بعدما سمعت حكم الحرمة أن تأخذ هذا النفس العميق؟ هلا استثنيت؟ هلا كففت حتى إذا تناقشنا ولم تقتنع بالحرمة شربت؟ فكيف تسمع لفظ الحرمة فتستمر على هذا الفعل؟ وهذا تحد، واستكبار على أمر الله.
وإذا سلمنا أنها مكروهة -وهي قطعاً حرام- فالبوابة إلى المحرمات المكروهات، وإذا كان الشيء مكروهاً فتعودت على فعله دخلت إلى الحرمات وسهل عليك فعلها.
لماذا حرم الله النظر إلى النساء؟ أليس لكف الرجل عن الزنا؟ فأين النظر وأين الزنا؟ لكن هذا من باب سد الذريعة، فإذا كان هذا الباب يوصلك إلى الحرام فأغلقه، فهذا أنجى لك.
والعلماء يقولون: الإكثار من المباح يوقع في المحرمات.
وذكروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام في النهي عن الشبع، مع أن الشبع جائز، لكن العلماء قالوا: (الإكثار من الأكل حتى الشبع يرخي النفس، ويقعد الأعضاء عن العبادة)؛ لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم وقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) لأن الصوم يكسر من حدة الشهوة في الدم والنفس.
وأكثر الناس وأشدهم شهوة الذين يملئون بطونهم، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قيل له: ألا نأتيك بجوارش -الجوارش.
يعني: دواء يذيب الأكل في المعدة، علاج هضم-؟ فقال: وما جوارش؟! قالوا: للمعدة.
قال: أنا لم أشبع منذ أربعة أشهر، لا أحتاج لجوارش.
والمعدة الخالية يكون صاحبها أقوى قلباً، وإذا نظرنا إلى الخيل في مضمار السباق؛ فإن الفرس الذي له كرش لا يستطيع أن يعدو، وإنما الذي يسبق الفرس المضمر الذي لا بطن له، وأصابته المخمصة.
ومن أكبر الأدلة على مسارعة الصحابة إلى تنفيذ أمر الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم الاعتراض عليه ما ورد في حديث الأنصار بعد قسمة غنائم غزوة حنين، عندما جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وقال: لا يكن مع الأنصار أحد في هذه الخيمة، إذاً: الأنصار شعروا أن هناك خصوصية لهم، هذا أول ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال لهم: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم! (قالوا: يا رسول الله! قد قالها حدثاء الأسنان منا -أي: أما حكماؤنا فما قالوها- قال: يا معشر الأنصار! ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله بي؟ ألم تكونوا متفرقين فجمعكم الله بي؟ والأنصار يقولون: الله ورسوله أمْنّ، ثم قال لهم: لو شئتم لقلتم: كنت طريداً فآويناك، وكنت، وهم يقولون: الله ورسوله أمَنَّ، قال: لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شعار -الشعار: هو الثوب الملاصق للبدن مباشرة، وتحرص في هذا الثوب أن يكون ناعم الملمس، فيريد أن يقول: أنتم قريبون مني مثل الشعار من الرجل والناس دثار -أي: الملابس التي لا تلامس الجسد- ألا ترضون أن يرجع الناس إلى بيوتهم بالدينار والدرهم، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ فبكوا وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً ونصيباً).
فانظر إلى هذه النماذج المضيئة من الصحابة الكرام وتمام متابعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، يقولون: (أما حكماؤنا فما قالوها) الناس العقلاء.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إني لأدع الرجل وهو أحب إليَّ)، وكان يعطي العطاء من يتألفه على الإسلام.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام عطاءً كبيراً، فجاء رجل آخر فأعطاه عطاءً أقل منه، فقال: يا رسول الله! أجزلت لفلان ولم تعط فلاناً، وإني لأراه مؤمناً.
قال: أو مسلماً.
فأعاد عليه سعد بن أبي وقاص هذه المقالة: إني لأراه مؤمناً.
ورسول الله يقول: أو مسلماً، ثم قال: إني لأدع الرجل وأعطي العطاء من هو أقل منه؛ أكلهم لإيمانهم) لأن المؤمن إذا لم يعط لا يتضجر، بخلاف الرجل الذي