للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سياق الكلام يكشف معناه]

إذاً ما هي حكاية أن السكوت علامة الرضا؟ هل هذا الكلام صحيح؟ نقول: نعم، صحيح، ولكن في نكاح البكر، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (تستأمر البكر، فقالوا: يا رسول الله! إن البكر تستحيي.

قال: إذنها سكوتها) فسكوت البكر علامة على رضاها، فلأبيها أن يمضي العقد لمجرد سكوتها.

ربما يقول قائل: فكيف نفرق إذاً بين السكوت الذي هو علامة الرضا والسكوت الذي هو علامة السخط؟ نقول: بالسياق، وعلماء الأصول يقولون: (السياق من المقيدات).

فالسياق: هو الذي يرشدك إلى المعنى، فمثلاً التبسم: هناك رجل يتبسم تبسم رضاً، ورجل يتبسم تبسم المغضب، أما تبسم المغضب، فكما في حديث كعب بن مالك في الصحيحين، قال: (فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً حضرني همي -ثم ساق كلاماً- قال: فجئته، فلما رآني تبسَّم تبسُّم المغضب، وقال لي: ما خلفك؟) إذاً هذا تبسم المغضب.

في قصة سليمان عليه السلام لما سمع النملة وهي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:١٨] فالله عز وجل ماذا قال؟ قال: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} [النمل:١٩]، فلماذا قال: (ضاحكاً) هنا؟ ليدلك على أن هذا التبسم علامة رضا، وليس لأنه ملك وأن النملة تتكلم وتقول: (لا يحطمنكم)؛ فكأنها قالت له: اتق الله، لم يغضب من كلام النملة بل تبسم (ضاحكاً) هذه أعلمتنا أن التبسم علامة رضا، وأن سليمان رضي ولم يغضب من قول النملة.

كذلك الترخيم، والترخيم: أن تحذف بعض حروف الكلمة على سبيل التدليل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب يدلل عائشة فكان يقول لها: يا عائش.

وليس: يا عائشة، وكان يقول لـ أسامة بن زيد: يا أسيم.

والترخيم هذا فيه دلالة على مزيد الحب.

وأذكر قصة أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل هذا مع عائشة رضي الله عنها؛ حتى أريك أن السياق هو الذي بين لنا أن هذا الترخيم خرج مخرج الحب.

فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه لما كانت ليلتي التي هي لي جاء ففتح الباب رويداً رويداً، وحمل نعله ومشى رويداً رويداً، ووضع جنبه على الفراش رويداً رويداً - (رويداً رويداً) بهدوءٍ شديد- وما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش -وهي تحت اللحاف مستيقظة، وترى كل شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم يتصور أنها نائمة- ثم قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق -فحين خرج الرسول عليه الصلاة والسلام خرجت هي من تحت اللحاف مباشرةً- قالت: فتقنعت إزاري، وانطلقت وراءه، وظللت أمشي وراءه، والنبي عليه الصلاة والسلام ذاهب إلى البقيع، ورفع يديه ثلاثاً يرفعها ويخفضها، ويرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف راجعاً فانحرفتُ، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحسر -أي: مشى بهدوء- فأحسرت وسبقته) فهو يرى الذي أمامه ولكن لا يعلم من هو، أول ما دخلت إلى الحجرة دخلت تحت اللحاف وتغطت به كأن شيئاً لم يكن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل وجد أن اللحاف ينخفض ويرتفع بحركة مستمرة، وهو قد تركها نائمة، فما هذا الذي جد؟ فقال: (مالك يا عائش؟ هذا هو الشاهد: مالك يا عائش: حشياً رابية -أي: هل ألم بك مرض خطير فجأة-؟).

فالسياق فيه لطف وشفقة، إذاً الترخيم هنا علامة حب، بدليل السياق، قال: (ما لك يا عائش؟ حشياً رابية؟ قالت: لا شيء.

قال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير.

فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله -في رواية أخرى أنه قال: نعم- فقصت عليه الخبر، قال لها: أنتِ السواد الذي كان أمامي؟ قالت: نعم.

قالت: فضربني في صدري فلهذني -وفي رواية أخرى: فلهدني، بالدال المهملة- في صدري لهدة أوجعتني -أي: ضربها بمجامع يده في صدرها- وقال لها: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟!).

فهي ظنت أنه ذاهب إلى أم سلمة، أو إلى جويرية، أو إلى زينب، وهي لم تفكر في المسألة إلا بعقلية المرأة؛ وهذا الظن له شاهد من صحيح مسلم، فلعل بعض الناس يقول: وما أدراك أن عائشة ظنت ذلك؟ فأقول: هذا الظن فيه نص في صحيح مسلم عن عائشة أيضاً، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً بجانبي، قالت: فتحسسته فلم أجده، فظننت أنه ذهب لبعض نسائه، فنزلتُ -لأنها كانت نائمة على السرير، ولم يكن في البيوت مصابيح- فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد، يقول: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، أعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

فقالت عائشة: فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنك لفي شأنٍ وأنا في شأنٍ آخر).

وروى مسلم أيضاً في صحيحه عن عائشة قالت: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي فغرت، فرجع فرآني غيرة، قال: مالك؟ أغرت؟ قالت: وما لمثلي لا يغار على مثلك) لفظ آخر قال لها: (أجاءك شيطانك؟ فقالت لرسول الله: أوليس لك شيطان؟) فـ عائشة كانت ذكية في تغيير دفة الحوار، فالمرأة الذكية تتعلم، ولا تقعد زوجها على كرسي الاعتراف وتقول له: أين ذهبت وماذا عملت؟ لا، والرجل يحاول أن يلملم الموضوع، وهي تقول له: لا تلملم الموضوع، لابد أن أعرف بالتفصيل الممل ما الذي حصل.

نقول لها: تعلمي من عائشة.

قالت له: (أوليس لك شيطان؟ قال: بلى، ولكن الله أعانني عليه فأسلم).

فقال: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله، هو جبريل أتاني فناداني فأخفى منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وكرهت أن أوقظك فتستوحشي) وأنت تعلم أن المرأة جبانة، ولاسيما إذا كانت صغيرة.

فالنبي عليه الصلاة والسلام سيتركها وحيدة، ولم يكن في البيوت مصابيح آنذاك، وليس لها ولدٌ تتسلى به، فكره أن يوقظها فتستوحش.

قال: (فقال لي: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم.

فقالت: وكيف أقول إذا مررت عليهم يا رسول الله؟ -انظر إلى ذكائها وتأمل كيف غيرت دفة الكلام! - قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع) الحديث.

فالمقصود أن السياق هو الذي يبين لك إذا كان الترخيم المقصود منه التدليل والرحمة والحب، أو المقصود منه السخط أو الشدة كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى برجلٍ يوم القيامة فيقول الله عز وجل له: أي فل - فل: اختصار وترخيم: يا فلان- ألم أذرك ترأس وتربع، وأزوجك من النساء، وأكسبك من الخيل والإبل؟! فأين شكرك؟! قال: أي رب! نسيت.

قال: اليوم أنساك).

فانظر إلى كلمة (أي فل) فهذا ترخيم، ولكن السياق دلنا على أنه ليس المقصود به الترخيم السابق، مثل: يا عائش، ويا أسيم، ونحو ذلك.

فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت.

ففهم عمر بن الخطاب أن السكوت ليس علامة رضا فذهب وجلس عند المنبر، قال: فغلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرت له فصمت، فذهب وجلس عند المنبر، قال: ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فانصرف عمر، فلما وصل إلى باب المسجد إذا بالغلام يناديه: قد أذن لك.

فدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعاً على رمال حصيرٍ قد أثر الحصير في جنبه).