للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

انتفاع الداعية بما عند غيره من علم لا يعد انتقاصاً له

جرب أن تعطي أذنك وقلبك لمحدثك تجد أنك لن تعدم فائدةً تخرج بها، وكنت قضيت فترةً في صدر شبابي وقبل أن أطعن في الكهولة لا أكاد أسمع من غيري، والسبب لأنني تعودت أن أكون متكلماً، من تعود أن يكون متكلماً يشق عليه كثيراً أن يسمع، فلو نظرت مثلاً إلى ضابط جيش أحيل للتقاعد وعمل شركة تجارية مع شخص آخر فسترى أن ضابط الجيش يريد أن ينفذ كل شيء بالأمر، فلو قال له: نأتي بكذا، يقول: لا، هكذا أفضل، تعود أن يقول افعل فيقال له: تمام يا فندم! من يوم أن كان ملازماً وحتى أصبح ضابطاً كبيراً وهو يأمر فيطاع، كل شيء (تمام يا فندم)! فلو أتى شخص يأمره تصبح ثقيلة جداً عليه.

فالذي يتعود طوال عمره أن يتكلم قد يشق عليه أن يكون في محل المستمع، مثلاً شخص لم يخطب الجمعة في حياته وكان ملتحياً، فدخل مسجداً -وكان الخطيب فيه غائباً- وصعد المنبر وخطب، فقالوا له: لماذا تخطب؟ فقال: كوني أسمع نفسي أحسن من آخر يعكر عليَّ، وفي نهاية الأمر أنا الذي أتكلم، وهل هناك أحد ينزعج من نفسه، أو يقبح كلامه حتى ولو كان في غاية القبح؟ فهذه فلسفة شخص لا متكلم ولا شيء، فما بالك لو كان المتكلم متعوداً أن يرتقي أعواد المنابر؟! فيكون قد تعود أنه يتكلم والناس يسمعون.

فمن داوم على قراءة سير العلماء -وهذا هو في الحقيقة الباب العظيم لتهذيب النفس- يحتقر نفسه، والله يا إخواننا كثيراً ما فكرت أن أعتزل الدعوة العلنية وأعتزل الفتوى، فكلما قرأت تراجم العلماء أصاب بهم وغم، فأتصل بمن أثق برأيهم من إخواني وأعرض عليهم محنتي وأقول: أنا لست بأهل، وكم مرة أعظم بلائي لأجل أن يقول لي أحد الذين أثق برأيهم: يجوز لك أن تعتذر، فما كنت أرى منهم ذلك أبداً، وكانوا يقولون: أنت آثم لو فعلت! فأرجع بخفي حنين وأنا حزين.

عندما أقرأ تراجم العلماء، وأقرأ في صبرهم، وأقرأ في جدهم وعبادتهم، وأقرأ في سعة علمهم فأنظر إلى حالنا الذي يعيش المرأ فيه مع ضحالة العلم وقلة التحصيل وقلة الصبر مع ضيق العطن فأقول: أنا غير أهل أبداً!! فقراءتك في كتب العلماء وسيرهم يهذب من طبعك، فكان مما تعلمته من تراجم العلماء: أن أجرب أن كون مستمعاً، فكنت مثلاً أدخل أصلي الجمعة في أي مسجد، صحيح الخطيب لم يك شيئاً، لكن أعطيه أذني وقلبي، وأصوب النظر إليه، ففي الجمعة الماضية مثلاً وأنا مسافر عرجنا على مسجد في الطريق لكي نصلي، والخطيب لم يكن شيئاً، يعني خطبة ولدت ميتة، أتعرف ماذا استفدت منه في هذه الخطبة؟ شكل الرجل؛ لأنه رجل كبير في السن وكان يتكلم بانفعال، وله لحية بيضاء، وكان يلبس عمامة لطيفة، فكل الذي استفدته من الخطبة شكل الرجل وسمته والحرارة التي يتكلم بها، وخرجت وأنا أرى أني استفدت، لن تعدم فائدة تخرج بها إذا أعطيت أذنك وقلبك لغيرك من أهل الخير.

إذا جئت تحاضر في مسجد مثل هذا وتأتي لتحضر درساً لواحد من إخوانك الدعاة فتجد الناس فوق بعضهم والشوارع ممتلئة فتجد في نفسك غيظاً، وتقول في نفسك: إن هذا الرجل مشهور وأحسن مني ويحضر له أناس أكثر مني، ثم تسمع كلام المادحين: جزاه الله خيراً ولا فض الله فاه، وأكثر الله من أمثاله وغير ذلك من المديح، فتقول: لدي تنبيه خفيف لطيف، لا يعكر طبعاً على ما قال، في الواقع يغالط في المكان الفلاني والمكان العلاني وهذا غفر الله له، يعني هذا لا يضر إن شاء الله وغير ذلك من الكلام، ويقعد يتكلم في أخيه بدعوى الورع وغير ذلك.

لا.

إياك أن تحسد أخاك، ربما كان النفع بك أعظم من النفع به، وانظر إلى الدعاة الوعاظ الذين كان يصلي وراءهم أربعون وخمسون وستون ألفاً، هل لهم تلاميذ ورثوا هذا المنهج؟ لا، لكن تجد العالم الذي يعلم عشرين شخصاً سيخرج من ورائه خمسة عشر عالماً على الأقل.

إذاً: صار النفع بهذا العالم مع العشرين أكبر من الرجل الذي كان يحاضر في أربعين أو خمسين ألفاً: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤].