القرآن الكريم يدور في أغلب محاوره على تقرير التوحيد ونبذ الشرك، والمعنى التالي مباشرة لهذا المعنى هو: الولاء والبراء، وعقيدة الولاء والبراء: أن تتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأن تتبرأ من الكافرين والمنافقين والعصاة بالقيد الذي ذكرته في العصاة، واعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومتى كانت المحبة في القلب كاملة كان الإيمان كاملاً، أما فعل الجوارح فبقدر الاستطاعة.
الإيمان: اعتقاد وعمل قول وعمل، وهو: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[البقرة:٢٧٧]، (آمنوا): هذا عمل القلب، و (عملوا الصالحات): عمل الجوارح، فالإيمان اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، فلابد أن يكون عقد القلب كاملاً لا نقص فيه، كل نقص في عقد القلب يعد نقصاً في الإيمان، بخلاف عمل الجوارح، فهذا بقدر الاستطاعة:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:١٠٦](أكره): عمل الجوارح.
مر رجل على قوم يعبدون الأصنام، فقالوا له: لن تمر حتى تقرب لإلهنا قرباناً، وإلا قتلناك، فقرب قرباناً لآلهتهم وهو كاره فهذا لا يضره شيء، لأن عقد القلب كامل، ولا يتصور نقصه في عقد القلب؛ لأن في مقابله نقص في الإيمان، والذي يحب الناس لمحبته واعتقاده فيهم إنما يحبهم بالهوى، ينبغي أن تكون محبته لله عز وجل، قد يسيء إليك أخوك ولكنك تحبه، لما فيه من الإيمان برغم إساءته لك، هذا هو الإيمان.
الإيمان اعتقاد بالقلب، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قال:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان) لماذا؟ لأنه لا يتصور الإكراه في عمل القلب، لأنك تستطيع أن تظهر غير ما تعتقد وأنت آمن؛ لأنه لا يشق عن قلبك، فلذلك جعل الإنكار باليد والإنكار باللسان بحسب الاستطاعة؛ لأنه ظاهر، أما القلب فلم يعذر فيه؛ لأنه لا يتصور عقد القلب إلا كاملاً، والنقص فيه يساوي النقص في الإيمان.
إذاً كلامنا على علامات المحبة حتى تعرف من توالي ومن تعادي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:٥١] فالذي لم يكن مؤتمناً على عبادة ربه كيف يولى منصباً؟!.
ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة حكاية عجيبة: أن الملك الصالح كان عنده مستشاراً نصرانياً، وكان هذا المستشار شجاً في حلوق المسلمين، كان يقرب النصارى ويبعد المسلمين، وفي يوم من الأيام جلس الملك الصالح مع هذا النصراني في مجلس، فتطرق الكلام إلى الكلام على النصارى واعتقاد النصارى، فالملك الصالح ذم النصارى، وذكر حكايات عن النصارى فقال: إنهم لا يحسنون الحساب، لأنهم جعلوا الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة! جسم الأب والابن والروح القدس إله واحد! فخطر على بال الملك الصالح أنه يفتش وراء هذا الرجل، فإذا كان خان الله في التوحيد فماذا يفعل في الخزينة؟! فأكتشف أنه يؤدي إلى السلطان ديناراً ويأخذ دينارين على مذهبه، فهم ثلاثة، خان الله عز وجل في التوحيد أفنجعله أميناً على الخزنة؟!! أميناً على الجباية!! ومع أن الأدلة صريحة في القرآن، فأهم معنى بعد التوحيد ونبذ الشرك هو الولاء والبراء:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:٢٣ - ٢٤]، هذه الأشياء التي ذكرها الله عز وجل هي مدار حياة الناس كلها، هذه الأشياء هي التي يوالون عليها ويعادون، الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والتجارة والمساكن، هذه هي حياة الناس، قال الله عز وجل:{فَتَرَبَّصُوا}[التوبة:٢٤]، (تربصوا): يعني انتظروا فاقرة، وانتظروا عقوبة تنزل بكم حتى يأتي الله بأمره، ثم فسقهم جميعاً فسق هؤلاء الذين يحبون هذه الأعراض على الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيل الله عز وجل.