للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غربة الدين في هذا الزمان]

غربة أهل الدين في هذه الأزمنة المتأخرة، مع عدم وجود النصير، ومع قلة الأتباع، ومع قلة الصبر؛ يجعل الغربة مضاعفة.

(الذين يُصلحون إذا فسد الناس) أو (الذين يَصلحون إذا فسد الناس) يدل على انتشار الفساد العريض، مع قلة الداعين إلى السنة، حتى يصير الواحد منهم أغرب من فرس دهماء في غلس، أرأيت إلى الفرس السوداء شديدة السواد إذا وقفت في ظلمة الليل البهيم أتستطيع أن تبصرها؟ {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:٤٠].

إن الغرباء الأولين كانوا يستعلون بإيمانهم لذلك كانوا يستهونون العذاب، تخلل الإيمان ووصل إلى شغاف قلوبهم، وما تساوي الدنيا إذا خرجت روحك إلى النعيم، كأنها حبيسة في زجاجة، فإذا خرجت من عنقها خرجت إلى الفضاء الواسع، فمن الذي يرضى بالسجن؟ فالدنيا سجن المؤمن، إذا خرج منها إلى اللذة والنعيم المقيم كان ذلك أعز أمانيه، لذلك كان يتمنى أن يخرج من الدنيا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (اعلموا أنكم لا تلاقون ربكم إلا إذا متم) إذاً فالموت عند هؤلاء أمنية؛ لأنه لا يستطيع أن يلقى الله إلا إذا مات، فإذا قتله المشركون قال كما قال الأولون: (فزت ورب الكعبة) ما كانوا يرتعدون للموت؛ لذلك كانوا يقدمون على نصر هذا الدين بعد تحقيقه في الواقع.

لماذا لا يشعر المسلمون الآن بلذة الدين؟ لأنه لا يراه حساً، لا يراه حقيقة واقعة، لا يمارسه، إنما هو نصوص نظرية نصوص صارت أثراً.

إن أصول الإسلام حبيسة في دور الكتب، فما طبع من الكتب في تفسير القرآن وتفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم يغطي الأرض، فلو أنك بسطت الكتب المطبوعة في تفسير كلام الله وكلام رسوله لملأت الأرض بالكتب، وأقول: إن ما لم يطبع من الكتب يساوي ما طبع مرتين أو أكثر، وهي حبيسة الخزانات العامة أو الخاصة، وكأنها تحف في متحف، وهذا كلام الله ورسوله، تفسيره وبيان مراده، نصوص انعزل المسلمون عنها، لم يشعروا بحلاوتها؛ لأنهم لم ينقلوها إلى الواقع، بخلاف الغرباء الأولين، كان الواحد منهم إذا قرأ الآية لم يتجاوزها حتى يعمل بها، لذلك قل فيهم من كان يحفظ القرآن كله، فكان من يحفظ القرآن كله من الصحابة قلة قليلة.

ونحن فينا -بحمد الله- من يحفظ القرآن كله، ولكن أقلهم من يعمل به، يقرءونه ولا يدرون معانيه، وبعضهم يقرؤه ويحرف الكلم عن مواضعه، كالذي يأخذ في الربع أو في الثلاثة أرباع ألف جنيه فيقال له: لم هذا السعر الغالي؟! يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:٤١] فماذا نفعل في هؤلاء؟! إن هؤلاء يحتاجون إلى عمر، فمثل هذا يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:٤١] ولم ينزل الله الآية لذلك، فهو يحرف الكلم عن مواضعه، فضلاً عن الباطنية أعداء الدين، الذين يحرفون الكلام تحريفاً هشاً لا يقبله العقل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧] يقولون: البقرة عائشة، وهل يوجد في أي قاموس من قواميس اللغة أن البقرة من معانيها عائشة؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:٢٠٠] أبو بكر {وَصَابِرُوا} [آل عمران:٢٠٠] عمر {وَرَابِطُوا} [آل عمران:٢٠٠] عثمان {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠] علي.

ما هذا الجهل؟! لم يقفوا عند عدم فهم كلام الله فحسب، بل حرفوه.

هذا أوان الغربة الثانية إن الغريب له استكانة مذنب وخضوع ذي دين وذل مريب يقف كأنه مذنب بلا ذنب، ويضع رأسه في الأرض، وحقه أن يعز، وحقه أن يرفع رأسه، لكن لضعف تربيته وتنشئته لا يستطيع أن يستعلي بالإيمان، بين قوم تسودهم بعض صفات الجاهلية، وليست الجاهلية فترة زمنية قبل الإسلام، إن الجاهلية مذهب وخلق، فتوجد بعض صفات أهل الجاهلية في أهل الإسلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي ذر (إنك امرؤ فيك جاهلية) وكان ذلك في أوج عز الإسلام، مما يدل على أن المرء قد يجتمع فيه جاهلية وإسلام، ويجتمع فيه كفر وإيمان، ونفاق وإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وباتفاق العلماء أن من يفعل ذلك ليس بكافر، بل هو مسلم.

ليس من يخلف وعده يكون منافقاً في الدرك الأسفل من النار لا، إنما هو مسلم فيه شعبة من النفاق، فهذا إسلام ونفاق اجتمعا في عبد واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) وهناك العشرات من المسلمين بل الملايين يحلفون بالنبي والولي، ومن يحلف برأس أبيه، ومن يحلف بشرف فلان، وهذا كله شرك وكفر؛ لكنه كفر دون كفر ولا يخرج من الملة، فهذا كفر اجتمع مع إسلام في رجل واحد، فإن الجاهلية توجد في العبد المسلم؛ لأن الجاهلية خلق وليست فترة زمنية قبل الإسلام.