[صور من ورع السلف وزهدهم في المباحات]
نحن نجد الآن من يرى ورع الصحابة داخل في جملة التنطع، يقول: هذا ورع! والورع لا يثبت حكماً.
فنقول له: دعنا الآن من هذه القاعدة الفقهية، لماذا تزري بهؤلاء وبورع هؤلاء؟ يذكر أن امرأة قالت لولدها: افتح لي نصف الباب.
فقاس الولد طول الباب بالشبر، فوجده ستة أشبار، ففتح الباب ثلاثة أشبار؛ لأنها قالت له: افتح لي نصف الباب، فخاف إن فتح أقل أو أكثر أن يقع في جملة الكاذبين.
فهل نقول: إن هذا تنطعاً؟ لِمَ تعده تنطعاً؟ هب أنني فتحت أكثر من النصف هل سأكون آثماً شرعاً؟ لكن لا تزري على أمثال هؤلاء.
باب الورع واسع جداً، وقد ضرب أسلافنا بفهم واسع في هذا الباب.
جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في ترجمة الإمام العلم المفرد وكيع بن الجراح أن رجلاً سبه، فدخل وكيع داره، ومرغ أذنه بالتراب، ثم خرج على الرجل الذي شتمه، وقال له: زد وكيعاً بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه.
أي: هو لا يلوم الرجل؛ لأنه يعتبر نفسه هو المذنب، وما ذلك إلا من سوء المعصية، فكان أن مثلك يتجرأ عليَّ فيسبني.
وجاء في ترجمة عبد الله بن وهب، الإمام العَلَم المفرد المفتي، وهو تلميذ الإمام مالك رحمه الله أنه قال: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً -يريد أن يكف عن الغيبة ويؤدب نفسه- قال: فكنت أغتاب وأصوم، فأزهدني الصوم، فنذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، قال: فمن حبي للدراهم تركت الغيبة.
هذا نوع من الأدب والسلوك كان أسلافنا يفعلونه مع أنفسهم لبلوغ درجة أعلى من درجة الورع، فهم يرتقون في المستحبات، ونحن في واد آخر، هم يرتقون في الصدقة والتطوع، وصيام الإثنين والخميس، ونحن لا يزال البعض منا يجاهد نفسه بالقيام بالواجبات، وإذا ذكرته بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم يرفع من درجته في الجنة، ويبعده عن النار استهزأ به، وهذا لا يمكن أن تجده إلا في رجل مقصر في الواجبات حقيقةً.
فمثل هؤلاء يرون ورع هؤلاء المتقين داخلاً في باب التنطع، ويرونه من التشديد، ويقولون: الدين يسر.
مثلاً: يذكر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه جاءه رجل فقال: قد سرقت شاتي.
فذهب الإمام أبو حنيفة إلى راعي غنم وقال له: كم أقصى عمر تعيشه الشاة على الأرض؟ فقال له -مثلاً-: عشرين سنة.
فحرم على نفسه أكل لحوم الشياة عشرين سنة لماذا؟ لأنه قد يأكل من لحم الشاة المسروقة، فما يريد أن يدخل إلى بطنه إلا حلالاً صِرْفاً، مع أنه لو اشترى وأكل فليس عليه شيء.
هؤلاء الأئمة لا ينظرون بهذه النظرة، فـ أبو حنيفة رحمه الله -وهو أحد الأئمة المجتهدين الكبار- لا تغيب عنه مثل هذه الحقيقة أو الحكم الفقهي حتى يحرم على نفسه أكل لحوم الشياة عشرين سنة، وهذا يدخل في باب الورع.
نحن ننظر إلى هؤلاء السلف نظرة إعجاب وتقدير! وحالهم كحال النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان يمشي في الطريق فرأى تمرة على الأرض فقال: (لولا أنني أخشى أنها من تمر الصدقة لأكلتها) أي: إنني لا أدري على وجه اليقين هل هي من تمر الصدقة أم لا؟ فهي مجهولة الحال بالنسبة لي.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو سيد المتقين، وكلهم أخذ منه عليه الصلاة والسلام.
جاءت أخت بشر الحافي إلى الإمام أحمد وقالت له: بينما أنا أغزل إذ مر حرس السلطان بمشاعلهم -يعني: ذاهبون إلى قصر السلطان- قالت: أيحل لنا أن نغزل في ضوء هذه المشاعل؟ فقال لها: من أي بيت أنتم؟ قالت: من بيت بشر الحافي.
فبكى الإمام وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في مشاعلهم.
لا يتصور أن أحداً يقول: لا تغزلي في مشاعلهم، والغزل في مشاعل هؤلاء حرام.
نحن الآن لا نتكلم عن الحرام.
نحن نتكلم عن باب واسع جداً اسمه: باب الورع الذي لا حد له ولا نهاية، بل على حسب دينك تجد الورع، كلما ولجت في هذا البحر تجده يتسع جداً أمامك.
امرأة فاضلة من العالمات، وهي عاتكة الكوفية كانت تسكن مكة، فظلت ثلاثين عاماً لا تأكل الفواكه ولا اللحوم التي تأتي من بلد من البلدان لماذا؟ لأنها علمت أن أهلها لا يورثون الغنائم، فلم تأكل، وكذلك أخوها نور الدين ما كان يأكل أبداً من ثمار المدينة لماذا؟ لأنه علم أن أهلها لا يؤدون الزكاة، مع أنه لو أكله لا يقال: إنه آثم شرعاًَ؛ لكن هو من باب الورع الواسع جداً.
وكذلك الإمام النووي رحمه الله ظل طيلة عمره المبارك -ومات وعمره خمس وأربعون سنة، وبلغ مبلغ الاجتهاد المنتشر في مذهب الإمام الشافعي- لا يأكل من ثمار دمشق، فيُسئل عن ذلك، فقال: هي كثيرة الأوقاف.
أي أن هذه البساتين أكثرها كلها وقف، فأخشى أن يدخل بطني من هذه الأصناف التي لا تحل لي.
ولذلك هؤلاء الناس سادوا، والله تبارك وتعالى بارك في أعمارهم، نجد -مثلاً- حجة الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عنه ابن القيم في كتاب "الوابل الصيب من الكلم الطيب": وكان شيخنا -قدس الله روحه ونور ضريحه- يكتب في ليلة ما ينسخه الناس في الجمعة، أي: يكتب في الليلة الواحدة ما لو أردتُ أنا أن أنسخ وراءه أظل أسبوعاً كاملاً أنقل ما كتب، مع أن الذي يصنف يريد أن يركز ويجمع أدلته، ومع ذلك تجده يكتب في ليلة ما ينسخه الناس في جمعة.
فترى أن هؤلاء العلماء بارك الله عز وجل في أعمارهم، لكن انظر أنت الآن وفكر بعد أن ترى مثل هذه الأمثلة وراقب وانظر إلى حال المسلمين الآن.
هل هناك فرق بين هؤلاء وبين أولئك؟