[غضب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم]
ومن مواقف الصحابة الكرام: موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول عندما سمع أباه يقول: (لقد غبر علينا ابن أبي كبشة) وأبو كبشة هذا جد أم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو غير معروف، لكن جد النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب وكان له شرف وسمعه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرتجز يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب لماذا عبد المطلب؟ لأنه كان له نباهة في قريش.
وكان المشركون إذا أرادوا أن يشتموا الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينسبونه إلى عبد المطلب؛ بل ينسبونه إلى أبي كبشة؛ فـ عبد الله بن أبي ابن سلول ما أحب أن ينسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جده، فقال: (لقد غبر علينا ابن أبي كبشة) غبر علينا: أي سحب السيادة منا، وسوى بيننا وبين العبيد والفقراء.
فسمع النبي عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة، وسمعها عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فقام وقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، والذي أكرمك، لئن شئت لآتينك بعنقه؛ أي: مرني الآن آت لك برأسه لماذا؟ لأنه لم يكن عندهم أغلى من النبي عليه الصلاة السلام أبداًَ، فلم يكونوا يتحملون أي شيء يقال عليه: (لئن شئت لآتينك بعنقه) انظر إلى الانفعال- ويغضب للرسول عليه الصلاة والسلام كل هذا الغضب والقائل هو أبوه! - فقال عليه الصلاة والسلام: لا، وولكن بر أباك، وأحسن صحبته.
أنعم بهذا الخلق! الخلق الجميل والخلق النبيل الذي ليس له مثيل! انظر إلى حكمته عليه الصلاة السلام في التعامل مع عبد الله بن أبي ابن سلول الذي كان يسبه صلى الله عليه وسلم ويشتمه، ومع ذلك قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
: عبد الله بن أبي ابن سلول هو رجل واحد فقط، فلماذا قال: أصحابه؟ لأن الناس حين تنقل خبراً تضاعفه، فإن قتل واحداً قال الناس: قتل اليوم خمسة، وغداً يقولون: قتل عشرة، وبعد غد: قتل خمسة عشر، وما إن يصل الخبر إلى آخر شخص في الجزيرة العربية حتى يقولوا: محمد يقتل أصحابه! فيقول: -وقد كان عازماً على الذهاب- يقول: الحمد لله أني لم أذهب، فمحمد يقتل أصحابه! مع أنه لم يقتل إلا واحداً فقط! ولو أن شخصاً دخل القاهرة، فسرقت محفظته، وهو أول مرة يدخل القاهرة، فأول ما يرجع يسألونه: كيف أهل القاهرة؟ يقول: كلهم سَرَقَة! هل كلهم سرقوه؟ شخص واحد هو الذي سرقه، لكن هذا التعميم من مبالغة الناس.
انظر إلى شعبة بن الحجاج رحمه الله! قيل له: لم لا تحدث القصاص؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً! القصاص يفترون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويضعون الأحاديث، ويأتون بالغرائب، ويخترعون القصص، ويسمعونها العوام ليأخذوا أموالهم.
ومن طريف ما يروى في ذلك: أن رجلاً لقي قاصاً فقال له: ألا تستحيي من هؤلاء الذين تقص عليهم هذه القصص؟! فقال له: أرأيت إن كان في بيتك بقر أكنت تستحيي أن تأكل أمامها؟! يعني: لو أن لك حظيرة وفيها بقر، فهل تستحيي أن تأكل أمامها؟! قال له: لا.
قال: أملهني حتى أعلمك، فقام وأخرج قصة، وبدأ يقطعها على الناس، وبعد أن انتهى من القصة، قال: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مس لسانه أرنبة أنفه فله الجنة) قال: فما بقي واحد إلا أخرج لسانه يريد أن يصل إلى أرنبة أنفه، فالتفت إلى صاحبه وقال: أقل لك: إنهم بقر؟! وقد أثر أن عبد الملك بن مروان قال للشعبي: حدثني بأعجب شيء مر بك.
فقال له: دخلت مرة الكوفة، فوجدت رجلاً من القصاص يتكلم ويكذب، ومن ضمن الكلام الذي قاله: إن الله تعالى خلق صورين، وفي كل صور نفختان.
يقول الشعبي: فبمجرد أن سمعته قلت: يا شيخ! اتق الله ولا تكذب، إنما هو صور واحد ونفختان.
قال: فأخذ نعله وضربني به، فتتابع الناس كل واحد يضربني بنعله، قال: والله ما تركوني حتى أقسمت لهم أن الله خلق سبعين صوراً، في كل صور نفختان! فلذلك قيل لـ شعبة بن الحجاج: لم لا تحدث القصاص؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً! طبيعة الناس عدم الصدق في نقل القول، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل هذا المنافق؛ لأن المفسدة في قتله أعظم من تركه حياً حتى مع الأذى.
والشاهد: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول لما سمع أباه يسب النبي عليه الصلاة والسلام انفعل وغضب، والصحابة كلهم كانوا هكذا، والذي كان يميزهم أنهم كان لهم التزام كبير بالنص سواءٌ كان قرآناً أو سنة.
من أجل هذا: ينبغي لنا أن نعتني بقلوبنا، وألا نتساهل في أي شيء يطرأ على هذا القلب مهما كان دقيقاً.
وليس بكبير أن ترحل إلى محافظة أخرى أو إلى بلد آخر لتسأل عالماً من علماء القلوب عن شيء يقض مضجعك؛ فأنت لو أصبت بمرض عضوي فإنك تطوف الدنيا لكي تتعالج، فقلبك أولى أن تهتم به: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:٥٨] لا يستطيع المرء أن يتوكل على الله حق توكله إلا إذا كان سليم القلب.
أسال الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا وإياكم قلوبنا، وأن يجعل حبه أحبّ إلينا من الماء البارد.
والحمد لله رب العالمين.