[أدب الصحابة فيما بينهم]
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا معشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا) هذا هو الأدب، هو مُغضب من تصرف إخوانه في المدينة، حيث لم يعجبه، ومع ذلك قدم بكلمة (إخواننا) حتى لا تظنوا أنه يطعن أو يعيب أو يسب أو يعير، وذكر لفظ (الأخوة) فيه معنى جميل، فالأخ أغلى من الابن، فربنا سبحانه وتعالى في معْرِض الانتصار يقول: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)) [البقرة:١٧٨]، لم يقل: مِن قاتلِهِ، ولا ممن اعتدى عليه، فلما ذكر الحق ذكر الأخوة، لكي يعفو {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:١٧٨].
قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:٣٤]، فبدأ بذكر الأخ، كأنه برغم الآصرة القوية وأن الأخ يفتدي أخاه، إلا أنه في هذا الموضع يفر منه، وقدمه على سائر الأصحاب، حتى على أبيه وأمه، فـ عمر رضي الله عنه قدم بلفظة (إخواننا) حتى لا تستشعر أنه يسب أو يعير، قال: فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا بالقوم تغلبهم نساؤهم.
قال: (فصخبت على امرأتي ذات يوم فراجعتني)، وفي خارج الصحيحين: (قال: فتناولت قضيباً فضربتها)، وانظر إلى لفظ: (فصخبت) حيث اعتبر أن مجرد المراجعة صخب، (فتناولت قضيباً فضربتها)، قالت: (أو في هذا أنت يا بن الخطاب، ها هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح) أي: أنا لست أقل منهن، ولا أفضل منه، قال: فأفزعني ذلك، وقلت: أو تفعل حفصة ذلك، ما قال عائشة ولا صفية ولا زينب بل سأل عن ابنته قال: وتفعل حفصة ذلك، ونزل إلى حفصة مباشرة قال: أي بنيتي! أتراجع إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل، قالت: نعم، قال: (وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله) أي: ما الذي أعطاك صكاً بالأمان، أنك تنشزي عليه فيغضب عليك لغضبه، فالله يغضب عليك؟ لماذا كان هذا الموقف من نسائه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من رحمة الله عز وجل أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يعاملنه كزوج، لا سيما عائشة رضي الله عنها كما ألمح عمر بن الخطاب، وذكر الحقيقة الشهيرة، التي كانوا يعرفونها جميعاً، وهي أن عائشة كانت أفضل أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت أحبهن إليه عليه الصلاة والسلام.
فيقول لها: (لا يغرنك أن كانت جارتك) وهذا من حسن الكلام والتعبير، ولم يقل لها: لا يغرنك أن كانت ضرتك لماذا؟ لأن الألفاظ قوالب المعاني، وضرتُك مأخوذة من الضر، والنحاة العرب والصحابة كان لديهم ذوق عالٍ حيث لم يكونوا يستخدمون اللفظ الذي فيه إهانة لفظاً قبيحاً أو شاذاً.
قال: المأمون مرة لأحد علماء الدولة الكبار: ما الأمر من السواك؟ عندما تقول لشخص استخدم السواك ماذا تقول له؟ قال له: استك يا أمير المؤمنين، قال: بئس ما قلت.
مع أن كلامه صحيح، ثم قال لآخر: وأنت يا فلان ما تقول؟ قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت.
مع أن إجابة الأول صحيحة، والثاني خطأ، لكن كان عندهم ذوق، فـ عمر بن الخطاب تنكب لفظة ضرّتُك؛ لأنها مشتقة من الضُّر، هذا هو منهج الرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان يغير الأسماء، على مقتضى المعاني الجميلة، مثال: لما قال لـ بريدة بن الحصيب: ما اسمك؟ قال: اسمي بريدة فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وخمد، وقال لآخرين: الجماعة من أين؟ قالوا: من غِفار.
فقال: غفر الله لها، ثم قال: وأنتم؟ قالوا: من أسلم.
فقال: سالمها الله، فيأخذ المعنى من باب الاسم.
ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتغيير الأسماء، وجعلها على معنى جميل؛ لأجل هذا، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن بعض الأسماء مثل: رباح ويسار ونجاح ونجيح وفلاح، قال: لا يسمين أحدكم غلامه رباحاً ولا نجاحاً ولا فلاحاً أو نجيحاً أو يساراً، لماذا؟ مع أن يسار خير من اليسر، ورباح خير من الربح ونجاح خير من النجاح، وفلاح من الفلاح أيضاً، فلماذا نهى عن هذه الأسماء الجميلة، قال: (حتى إذا قيل: أثم هو فيقال: لا)، مع أن المتكلم والسامع لا يخطر على باله هذا المعنى، فإذاً: العلة هي ما يقع في سمع السامع وأنه لا فلاح ولا نجاح ولا يسار لما يقول له: غير موجود، لا فلاح ولا نجاح وما إليه.
لذلك حين تختار اسماً، فاختر إما اسماً له دليل كمريم وفاطمة، وعائشة، وخديجة، أو اسماً له معنى جميل، مثل ميمون، فميمون من اليُمن، ولاحظ المصيبة، شخص أراد أن يسمي ابنه (ميمون)، فقالت أمه: نسميه على اسم القرد؟ من الذي قال: إن القرد اسمه ميمون، والقردة اسمها ميمونة؟ من قال هذا؟ أو مثل معاذ، أي: أن الله أعاذه، وأنس من الأنس، وهكذا.
فاختيار اللفظ مسألة مهمة: عمر بن الخطاب تنكب أن يقول: ضرّتك، ومحمد بن سيرين كان يسمع يقال من يقول عن المرأة الثانية أنها ضرّة، فكان يقول: إنها لا تضر ولا تنفع ولا تذهب برزق إلا بكتاب،، إنما يقال جارة من الجوار، والجار له حق على الجار، ليس فيه معنى قبيح.