للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله: (وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)]

ثم قال في الحديث: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).

ذهب طائفة من علماء العربية وطائفة من علماء الأصول إلى أن (إنما) من صيغ الحصر، وهي تساوي (لا) و (إلا) في الاستثناء، مثل: لا إله إلا الله، فهنا نفيت كل الآلهة عدا الله تبارك وتعالى، فصارت الإلهية محصورة برب العالمين تبارك وتعالى، هذا هو معنى نفي الاستثناء.

نقول: (إنما) تفيد الحصر على رأي طائفة كما ذكرت فقوله: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) فكأن غاية البعثة -بعثة النبي صلى الله عليه وسلم- وقوع هذا الابتلاء وهذا الاصطدام بين أهل الحق وأهل الباطل، ولو تأملت حكمة الله الباهرة في وضع هذا الابتلاء لعلمت أن الله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا، وهو ناصرهم وإن كانوا قلة ما داموا معتصمين بأمره.

وسنة الدفع جاءت في القرآن في موضعين، وفي الموضعين جميعاً قتال: الموضع الأول: في سورة البقرة في قصة طالوت وجالوت، وفي آخرها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:٢٥١]، إذاً: بقاء الأصل أننا في عداء مستمر، وهذه سنة كونية لا بد أن تقع، ولو كان هناك أناس في الدنيا أهل لأن يزيلوا الخلاف لكان الصحابة أولى بذلك لكنهم ما استطاعوا، فظهرت الخوارج والشيعة، وبدعة القدر ظهرت في آخر عهد الصحابة، ومع ذلك عجز الصحابة عن أن يجعلوا الشيعة يتركون آراءهم، وهم الصحابة، الذين لديهم الحجة، ومعهم الأدلة، ومعهم الصحبة أيضاً، ومع ذلك عجزوا عن أن يزيلوا الخلاف.

فهذا الاختلاف مهم جداً حتى تبقى الأرض: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:٢٥١].

والموضع الثاني: في سورة الحج بعد قوله تبارك وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:٣٩]، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:٤٠]، فتأمل هذه السنة! إن الذين ينكرون أشياء من السنة، ويطعنون في صحيح البخاري في الجرائد والمجلات، ويرمون الصحابة بالكذب نقول لهم: تعالوا نأخذ جزئية إنكار الشفاعة، والتي تورط فيها الدكتور مصطفى محمود، فإنه أولاً أنكر الشفاعة العظمى، وبعد ذلك أنكر حجية السنة، ومن حكمة الله أنها تمت هكذا؛ لأنه لو أنكر السنة أولاً لما أنك عليه، لكنه فضح نفسه بإنكار الشفاعة العظمى، ثم لما جاء ينكر السنة انكشف، ومثله كمثل الذي سرق كشافاً واختبأ في حارة مظلمة! إن الذي يتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم لا يسلم أبداً؛ لأن الله عز وجل هو الذي يدافع عن رسوله، ففي سورة التحريم لم يسلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم لملعقة عسل، قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:٤] سيحال بينكم وبين ما تريدون: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤]، فالذين يسبونه صلى الله عليه وسلم ويتعرضون له، سيحال بينهم وبين ما يريدون؛ لأن الله عز وجل هو الذي يدافع عن نبيه.

وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) وهو يتكلم عن حرمة الرسول وارتفاع جنابه عليه الصلاة والسلام، قال: حدثني كثير من الفقهاء الذين كانوا يغزون الروم بأنهم كانوا يحاصرون الحصن شهراً وشهرين أو ثلاثة أشهر، والروم في الداخل معتصمين ومعهم الزاد، فنكاد نيأس من فتح هذا الحصن، فيقعون في عرض النبي عليه الصلاة والسلام فيسبونه؛ فيفتح الحصن بعد يوم أو يومين، فقال هؤلاء العلماء: فكنا نتباشر بسب النبي عليه الصلاة والسلام مع امتلاء قلوبنا غيظاً مما نسمع.

فأول ما يقعون في الرسول صلى الله عليه وسلم ويسبونه، نعرف أن الفتح قادم مباشرة، فالله عز وجل هو الذي يدفع عن نبيه، فتعالوا نرى سنة الدفع: من قديم الزمان ونحن نقول للناس: الأحاديث الموضوعة والمكذوبة وعلة الحديث إلخ، وما أحد يستمع، بل يقولون: هذا كله كلام أكاذيب، وكلام مصطلح حديث إلخ، فكان من لطف الله عز وجل -وهذه سنة الدفع- أن قيض الدكتور لينكر المقام المحمود -الشفاعة العظمة- حتى تصير السنة قضية، وهذا هو الذي نريده، نحن نريد أن يكون الكلام في السنة كلام كتب، نحن نريد أن تكون السنة قضية تشغل الناس كلهم، ويفكرون كيف ننصر الدين؟ وكيف ننصر رسوله؟ وهذا -بحمد الله عز وجل- أصبح جلياً واضحاً بعد هذه المحنة، فكثير من الناس رجعوا إلى دين الله عز وجل، واستجابوا -مثلاً- لتفريغ طلاب العلم، وأناس تبرعوا في منتهى الحمية، وما كنا نتصور أن يكون رد فعل الجماهير مشرفاً إلى هذا الحد!! فكان من تمام سنة الدفع أن يشتموا الصحابة حتى نذكر فضائل الصحابة، والناس يعرفون من هؤلاء الصحابة وأن ينكروا السنة حتى نعرِّف الناس كيف صنف البخاري كتابه، وأن الجماعة الذين يتكلمون في البخاري لا يصلحون أبداً لأن يزيلوا الأذى عن البخاري، لا ينفع، لكي يكف عن البخاري الذي يقول لك: إن في البخاري أحاديث مكذوبة والبخاري عبارة عن أحاديث موضوعة والبخاري أحاديثه إسرائيليات، وأضف إلى ذلك قوله: وسيحاسب الله البخاري أشد الحساب! فهذا من جملة البلاء ولكنها نعمة من الله، فإذا نظرت إلى أثرها علمت أن الله تبارك وتعالى لطيف، وأنه أرجع بهذه المحنة فئات من الشاردين عن هذا الدين أرجعهم إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى، وصار لهم انتماء، فالمسألة (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) هذه مسألة أصلية؛ ولذلك أناط الله عز وجل البلاء بأوليائه، فلماذا جعل أولياءه هم الذين يبتلون ويشردون لماذا؟ أليس الله تبارك وتعالى قادراً على أن ينصرهم بـ (كن)، وأن يمكن لهم؟ أليسو هم أولى الناس أن يسعدوا في الدنيا؛ لأنهم عباد الله المتقين الأخيار؟!! إن هذه الدنيا يتمتع بها الخواجة، ويتمتع بها الكافر والفاجر، وأما أهل الإيمان وأهل الدين فهم الذين يحرمون الدنيا فما هي حكمة الله في ذلك؟ حكمة الله في ذلك: أن القلب لا يحيا إلا في المحن، فهو يستمد مادة حياته من المحن، هكذا خلقه الله عز وجل، فالجوارح تستمد مادة حياتها من الراحة والدعة، أما القلب فيستمد حياته من العوارض والمحن، ولأجل هذا جعل الله تعالى البلاء من نصيب أوليائه ليلقوه عز وجل بقلوب ثابتة.

وأنت في البلاء كالسابح ضد التيار، والذي يسبح ضد التيار معنى ذلك: أنه سيخرج بشيئين: قوة القلب، وقوة العضلة.

ولذلك فما من محنة تمر على المرء إلا ويخرج منها أزكى، وأقوى مما كان، والمسألة تشبَّه بالكرة المطاطة، فكلما ضربت الكرة المطاطة في الأرض بعنف كلما صعدت إلى الأعلى أكثر.

فجعل الله عز وجل البلاء من نصيب أوليائه لأجل هذا؛ لأن العبد في الآخرة إنما يوزن بقلبه، كما يقول ابن القيم رحمه الله: (يأتي الرجل السمين البدين ولا يزن عند الله جناح بعوضة)، برغم أنه بدين الجسم، لكن الله عز وجل لا يزن الناس بالأجسام، إنما يزن الناس بالقلوب، كما في حديث ابن مسعود أنه كان ضعيفاً نحيلاً فصعد يوماً على شجرة، فضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه، قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)؛ لأنه لا يوزن بجسمه عند الله تبارك وتعالى.

إذاً: البلاء قرين الدعوة وقرين الالتزام، فإذا سعيت إلى ربك فأنت مبتلى ولا بد، فلا بد أن تهيئ نفسك للبلاء والحديث واضح: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).